يا لله ما أعجب! هذا هو الدهر تنقضي أيامه وتنطوي لياليه، فيجتاز بذلك حولاً من العمر، يطل من ورائه أبو عبيده، أديب العربية الأكبر، العلامة الجليل محمد إسعاف النشاشيبي. فإذا هو ذكرى في ثنايا التاريخ، وإذا هو حنين تنبض به القلوب، ثم إذا هو طيف تجتليه الخواطر، وتفتقده النواظر.
ويح هذه الآمال المديدة، لطالما زينت له مخوف السيل، وهونت عليه وعر المسالك. فعبر كؤودها، واعرورى متونها، ومضى قدُماً لا تقعده المخاطر، ولا تكبح جماحه لأرزاء. فكلما أدرك غاية، برزت له من ورائها غايات.
بل ويح هذا الطموح مازال به يستحث خطوه الجامح، فهو لا يستقر إلى آمال، وهو ما يفتأ يشد الرحال ولكنه أخيراً مضى بعد أن خاض شتى المجاهل في دنيا (العربية)، وتجاوز في ارتيادها بعيد الآفاق. فلم تفته منها صغيرة، ولم تقف بين يديه كبيرة. فقد ألم بهذه وسبر أغوار تلك، وأحاط من ذلك كله بما لم يحط به إلا قليل، فكان شأنه في هذا السبيل، شأن المجاهد المستبسل، لا تقعده جراحات الغدر، ولا ترده أحابيل العدو المخاتل. فخاض غمرة الكفاح، ولا أيد ولا وَزَر، إلا ما اشتمل عليه من مضاء العزيمة، فأدرك النصر الباهر في كل ميدان، ومضى في قافلة العمر تزامله العزة والأنفة والإباء، لا يضير هذه القافلة أن تعترض سبيلها (الثعالب) حيناً، ثم لا تلبث أن تحول أو تزول.
أرأيت - يا أخي القارئ - بركاناً يتضرم أواراً، ويستعر لهيباً، ويغلي في جوفه شواظ وحمم، فهو إذا ما فار وما زفر زفرة أسكت بها من حوله كل باغم؟ كذلك عهدت النشاشيبي المتقد حيال أعداء العربية، وأجراء ذوي الأغراض. ومالك لا تستيقن ذلك حين تسمعه يردد ساخطاً:
(وأن نجم ذئب فصاح. (إن لكل عصر لغة، وإن لطبيعة العصر سلطاناً على القول، فكيف تنادينا إلى لغة يقول العصر - إن استمعها - ليست هذه بلغتي! فنحن نشنأ ما تنادينا إليه، ولا نحب أن نقتل أنفسنا منكبين على القول القديم العتيق، الذي شرب الدهر عليه وأكل،