هنالك على السفوح المقدسة من عرفات ومنى، حيث يتناوح الأخشبان بهامتيهما العاريتين وفي عدوة المسعى بين الصفا والمروة تتهادى نساء في الحجيج، متلفعات بالأبرار البيض، مؤتزرات بأنقى الجلابيب، يبتهلن إلى الله بوجوه مشرقةٍ بالرضا، وقلوب فياضة باليقين، جياشة بالحنين، إلى بيته الحرام؛ وكما يزم الرجل رحاله، ويلملم أحماله، ويطوي البيد أو يمخر البحار، ليصل إلى ديار بني هاشم وعبد شمس، بإيمان لا يزعزعه زمان، وآمال ترثها الأجيال من الأجيال؛ هكذا تسارع نساؤنا في مواكب الرجال، إلى دارة الوحي وكعبة الدين، لا يصدهن عن الحج حرب ولا بعد، ولا يعوقهن غد غامض مجهول، أو ولد حبيب، فإذا بلغن مكة المكرمة، وباشرن فريضة الحج، بدأن من الشعائر بالإحرام، فلبسن كالرجال إزاراً ورداء جديدين ناصعين بالبياض، ثم والْينَ التلبية، رافعات بها الأكف، مبدئات ومعيدات: الله أكبر، الله أكبر! لبيك اللهم لبيك. . . فيتردد هذا الهتاف، ويضيع في زمام الحجيج كلما علون شرفاُ ونجادا، أو هبطن سفحاً ووهادا، فمن حول البيت العتيق كم طوفت مسلمات مستلمات الحجر الأسود، ميامنات فيه أشواطاً سبعة مباركة! ولكم ثمة وفين بالنذور، وتشبثن بالأستار الشريفة، داعيات إلى الله بالرحمة والغفران، وسلامة الإياب إلى الأوطان. . .
كانت زبيدة بنت المنصور زوج الخليفة العباسي هرون الرشيد تتوق للحج كلما حج الرشيد الذي كان من دأبه أن يغزو عاماً ويحج عاماً، فلما قتل ابنها الأمين، واستولى المأمون على الخلافة، جاءت زبيدة الثكلى حاجة محتسبة عند بيت الله مصابها في ابنها، فأكبت على المبرات، وأجرت عيناً حتى اليوم باسمها، يجد عندها الحجيج سكناً للهاثهم، وريّاً لظمائهم. . . ومن يدري، فلعل السيدة زبيدة - يرحمها الله - كانت إذا وقفت عند أستار الكعبة تمزج الرحمات بالدمعات، وتنشد قول الحسن بن هانئ في ابنها الأمين:
طوى الموت ما بيني وبين محمد ... وليس لما تطوى النية ناشر
لئن عمرت دور بمن لا أحبه ... فقد عمرت فيمن أحب المقابر
وكنت عليه أحذر الموت وحده ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذر