ثم تنثني إلى الصدقات، فتأمر بإمداد المعوزين والمساكين: فتكسوا العريان، وتطعم الجائع، وتعطى الفقير. . . ومن الغريب ألا يسلم عصر من عصور الأدب نم مزاحمة الشعراء للنساء، ولو كن في مناسك الحج ومحاريب العبادة والزهادة:(ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟). . . هكذا كانوا يرتقبون أسباب الدعاب، ويتلمسون مراتع الفتون، فيجيبون داعي القلب، كما يجيبون داعي الرب. على أن أشهر وأكثر من تصدي للنساء بالغزل والثناء هو عمر بن أبى ربيعة، فقد اتخذ من أيام الحج موسماً للهوة ومجانته، وكثيراً ما وقف عند الحطيم هائم النفس يترقب وينشد:
أيها الرائح المجد ابتكارا ... قد قضى من تهامة الأوطارا
من يكن قلبه صحيحاً سليماً ... ففؤادي بالخيف أمسى معارا
ليت ذا الدهر كان حتما علينا ... كل يومين حجة واعتمارا
وقد بلغ من عبثه وغزله أن نفرت كل حصان رزان من الحج، وأبى أحرار الرجال على نسائهم تأدية هذه الفريضة كلما جاء هذا الشاعر المخزومي إلى تلك المناسك المباركة.
كان عمر يقتحم العقبات ولا يحجم عن تعقب الحسان وتتبع الغواني في مغاني الطائف أو بين مسارب العقيق وواديه البهيج مهما لقي من تهديد الخفاء والمتزمتين ومن وعيد أصحاب الغيرة على الحرمات، ولكم هجر مكة أناس فراراً من هذا الشاعر الغزل، وخشية تشبيبه بكرائمهم وتنويهه بأسمائهن وكشفه عن معالم الجمال فيهن. أما موكب النبيلات من شريفات الحجاز أو العراق والشام في مواسم الحج فكانت حافلة بالهوادج والرواحل مثقلة بالمتاع والزينة.
روي أن عائشة بنت طلحة ذات مرة ومعها ستون بغلاً عليها الرحائل والقباب فعرض لها عروة بن الزبير قائلاً:
عائش يا ذات البغال الستين ... أكل عام هكذا تحجين
فأرسلت إليه: نعم يا عُرَيَّة! فتقدم إن شئت. فكف عنها وندم على فضوله
ولم تكن كل النساء في عصر عمر سواء في التنكر للشعراء والتحرج من غزلهم ولهوهم، فالجميلة منهن كانت تتمنى أن يسير في ذكرها الشعر، ولاسيما في شعر عمر بما يزيدها تيهاً بحسنها ويغرى بها الخطاب. وكان الشاعر العرجي يتصدى في موسم الحج لمن