أن معنى النظر في العالم المنظور هو النظر الحر من أوجه العالم المشهودة بدون أن يشوب هذا النظر اتجاهات مستنزلة من النظر الغيبي، والبحث عن الخالق عن طريق الطبيعة نظرة للطبيعة ولكن مشوبة بالنظر الغيبي. إذن فمتى سبق الشرق الغرب بمثل هذه النظرة الحرة للأشياء من أوجهها المشهودة؟ أليس اليونان أول من أطلقوا العقل من عقاله وحرروه من الخضوع في اتجاهاته للنظر الغيبي، وأعادوا العقل إلى مكانه الصحيح في عالم الشهادة؟
وبعد فيظهر أن باحثنا المفضال، متأثراً بعقليته الشرقية من جهة وبعدم تفهمه ما وراء عباراتنا من معان من جهة أخرى، انساق لاعتراضات ومواقف ليست من الحقيقة في شيء. ولا أدل على ذلك من تعليقه على رأينا (من أن الجانب العلمي والفلسفي من الثقافة الإسلامية نتيجة للأخذ بأساليب الفكر اليوناني) بقوله: (ولماذا لا يكون هذا الجانب نتيجة للأخذ بأساليب الدين الإسلامي وتعاليمه؟) ونحن إزاء هذا التساؤل لا نملك أنفسنا من السخط لا على أن باحثنا أتى بشيء ليس لنا قبل برده؛ ولكن لاعتراضه على حقيقة معروفة للجميع بمثل هذا التساؤل الذي لا يعني شيئاً غير قصور صاحبه عن الوقوف على تأثير الفكر اليوناني في نشأة الثقافة الإسلامية. يقول البروفسور نيلينو المستشرق الإيطالي المعروف في كتابة تاريخ علم الفلك عند العرب ص ١٤١ ما نصه:
(في أواخر مدة الدولة الأموية، ثبتت سلطة الإسلام على جميع الأمصار والأقطار التي دخلتها ألويته عنوة أو صلحاً أثناء المغازي المتواصلة والفتوح من أقصى بلاد ما وراء النهرين في تركستان إلى منتهى المغرب والأندلس. فعمت اللغة العربية الشريفة أهل تلك الولايات والبلدان وغلبت على ألسنتهم الأصلية فأخذ المسلمون كلهم من أي جنس أو ملة لا يستخدمون في الإنشاء أو التأليف إلا لغة العرب. فابتدأت وحدة الدين تستوجب وحدة