الشيخ محمود العلمي من فقهاء قريتنا، يحفظ القرآن الكريم لا تشتبه عليه آية، ولا يؤخذ عليه لحن. ويروى فقه أبي حنيفة، لا يغيب عنه حكم، ولا تلتوي عليه فتوى. لم يختلف بعد الكتاب إلى معهد من معاهد العلم، فكان أستاذ نفسه في النحو، تنخل كتبه ونفضها. أستاذ نفسه في الأدب، وأستاذ نفسه في الكلام والجدل والتفسير والحديث؛ لكنه كان مع ذلك مستصغراً محتقراً، أسلمه إلى هذا الهوان جنايات تمالأت عليه، من الفقر وإرهاف الحس والحدة الرعناء!.
كنت استفتبىء إلى ظل السابعة، وكان هو مشرفاً على الثلاثين. وكانت معرفتي له آنذاك معرفة الحدثان بالشذاذ، فهم مغرمون بمتابعتهم والتصفيق وراءهم والتندر بهم. كنت لا أراه أنا وأترابي حتى نشد وراءه عدواً، فإذا انقلب إلينا راجعاً، تهاربنا تهارب الفيران، ولاذ كل منا بزقاق أو دار أو مسجد. وكان الشيخ محمود أعمى أو شبه أعمى، لا يفتأ يحدث نفسه وكثيراً ما تظهر انفعالاته في رفع يديه إلى صدره تفرك إحداهما الأخرى زهواً وإعجاباً، أو غيظاً وتحرقاً.
فتن الشيخ محمود بسعد زغلول، وكان سعد عنده أرفع من أن يمدح بالشعر المنظوم أو الخطب المرسلة، ولم يكن يليق به إلا سورة على نهج القرآن، تسير بها الركبان، ويتلوها الناس على مر الزمان.
وأصبح أهل القرية ذات يوم، فإذا الشيخ محمود عند باب المسجد جالساً متربعاً وقد تنحنح ثم سعل، ثم بصق عن يمين وشمال، ثم رفع عقيرته يتلو ويرنم هذه السورة الجديدة. (ع. د، إنك لمن المنصورين، إنا شددنا عزمك المتين، وآزرناك بمكرم المبين، واصطفينا لك النحاس الأمين، وباركنا عليك في الآخرين، سلام على سعد في العالمين، أنه من عبادنا المجاهدين.) ولو يتلو ويتمايل، ويؤتي المدحقة والغنة حقها، ويعدل النحاس مرة، ويميله مرة، ويحقق همزة الأمين تارة، ويخفيها تارة؛ ولو رأيته واضعاً يده على صدغه، مدخلاً سبابته في أذنه، وصدره يعلو ويهبط، وعروق رقبته تبرز وتختفي، لهالك هذا الجلال، ولأخذ بمجامع قلبك أخذاً. فلما فرغ من سورته قال:(صدق محمود الحكيم) فتناول الناس