بما خف وما ثقل من عصا أو سوط أو حذاء أو حجر، فمن لم يجد فصفعة بكف، أو ركلة بقدم. فمن لم يستطع فبصقة من فم، أو مخطة من أنف. وكان أمره هذا أحدوثة الموسم. ولكن الشيخ محموداً استوحش فلم يعد يأنس لأحد ولم يعد يأنس إليه أحد.
وشببت عن الطوق، وشدوت شيئاً في المعرفة، واتصلت بالشيخ محمود، إذ كان يختلف إلى أبي ليوضح له مشكلاً، أو يستعير منه كتاباً، أو يقرأ عليه مقالاً، فأكبرت الرجل وعرفت له حقه. وجاء يوماً وقد دس صحيفة في كمه، ثم نشرها وقال: أقرأ، فإذا هو مديح للنحاس وللوفد، جاء فيه:
أستنصر الله للنحاس مأوانا ... نصر النبي الذي بالدين آوانا
وأسأل الله تأييداً لصحبته ... من أصبحوا تحت ظل الوفد إخوانا
لو خير الناس يوم الحشر مسكنهم ... لاخترت بيتك يا نحاس ديوانا
فلما بلغت هذا المكان من القصيدة قال: أكفف!، فكففت، ثم قال: أتظن النحاس باشا يعلم أن كلمة (ديوان) منقولة من الفارسية، وأن أصلها (دوان) قلبت الواو الأولى ياء شذوذاً؟ فأردت أن أمكر به، فقلت: إنا لله! إذا لم يعرف هذه فكيف يصح أن يكون رئيس الوفد، وخليفة سعد؟ ففرك يديه، وجال بعينيه، ثم قال: في الحق أنني أحترم النحاس باشا، ولكني أحب عبد الحميد عبد الحق، وفرق بين الاحترام والحب، فبعد الحميد صفى روحي، وإن كنت لم أره ولم يرني، وقد عتبت عليه ببيتين فقلت:
عبد الحميد كفى! فلست بعالم ... ماذا يثور اليوم في وجداني
والله ما هز الفؤاد وشفه ... إلاك - يا عفريت - من إنسان!
قلت: أو أرسلت بهما إليه؟ قال: سأبلغهما له بنفسي وعلى طريقتي. سوف استحضره الليلة قبل نومي، فإذا عن لي في الحلم، أنشدته إياهما، فيصبح وقد نقشا على قلبه نقشاً.
وكان الشيخ قد مال إلى دراسة الإنجليزية، فلقيته على فترة من السنين، فقلت له: ما أحدثت؟ فقال: أحدثت جللاً!، قلت ذلك هو العهد بك والأمل فيك. قال: نعم، وجدت صغارنا يتعبون في حفظ الإنجليزية، فرأيت أن أضمنها أبياتي، حتى تسهل وتهون. قلت: فعلت، فلله أنت!. ثم اتخذنا سبيلنا غلى بائع (جزر) على حمار، فالتفت الشيخ وقال: فما الامتحان (ببقلاوة) كمثل التي عند (يور فذر)! وما يستوي النابغ العبقري ومن كان يا ابني يبيع