قال راوي الخبر: ذهبت إلى المسجد لصلاة الجمعة؛ والمسجد يجمع الناس بقلوبهم ليخرج كل إنسان من دنيا ذاته، فلا يفكر أحد أنه أسمى من أحد؛ ولقد يكون إلى جانبك الصانع أو الأجير أو الفقير أو الجاهل، وأنت الرئيس أو العظيم أو الغني أو العالم، فتنظر إليه وإلى نفسك فتحس كأن خواطرك متوضئة متطهرة؛ وترى كلمة الكبرياء قد فقدت روحها، وكلمة التواضع قد وجدت روحها؛ وتشعر بالنفس المجتمعة قد نصبت الحرب للنفس المنفردة. ولو خطر لك شيء بخلاف ذلك رأيت الفقير إلى جانبك توبيخاً لك، ونظرت إليه ساكتاً وهو يتكلم في قلبك، وشعرت بالله من فوقكما، واستعلنت لك روح المسجد كأنها تهم بطردك، وخيل إليك أن الأرض ستلطم وجهك إذا سجدت، وأيقنت من ذات نفسك أن لست هناك في دنياك وليس صاحبك في دنياه، وإنما أنتما هناك في انسانية ميزانها بيد الله وحده؛ فلا تدري أيكما الذي يخفّ وأيكما الذي يثقل.
قال: والعجيب أن هذا الذي لا يجهله أحد من أهل الدين، يعرفه بعض علماء الدين على وجه آخر، فتراه في المسجد يمشي مختالاً، قد تحلى بحليته، وتكلّف لزهوه، فلبس الجبة تسع اثنين، وتطاول كأنه المئذنة، وتصدّر كأنه القِبلة، وانتفخ كأنه ممتلئ بالفروق بينه وبين الناس؛ وهو بعد كل هذا لو كشف الله تمويههُ لانكشف عن تاجر علم بعضُ شروطه على الفضيلة أن يأكل بها، فلا يجد دنيا ذاته إلا في المسجد، فهو نوع من كذب العالم الديني على دينه.
قال الراوي: وصعد الخطيب المنبر، وفي يده سيفه الخشبيُّ يتوكأ عليه؛ فما استقر في الذروة حتى خُيل إليَّ أن الرجل قد دخل في سر هذه الخشبة، فهو يبدو كالمريض تقيمه عصاه، وكالهرم يمسكه ما يتوكأ عليه؛ ونظرت فإذا هو كذب صريح على الإسلام والمسلمين، كهيئة سيفه الخشبي في كذبها على السيوف ومعدنها وأعمالها.
وتالله ما أدري كيف يستحلُّ عالم من علماء الدين الإسلامي في هذا العصر أن يخطب المسلمين خطبة جمعتهم وفي يده هذا السيف علامة الذل والضّعة والتراجع والانقلاب والأدبار والهزل والسخرية والفضيحة والإضحاك؛ ومتى كان الإسلام يأمر بنجْر السيوف