ترجع ذاكرتي الآن سبعا وثلاثين سنة وأنا في ساعة من ساعات الذكرى إلى الصورة الأولى من وجه باسم يطالعني مع الصبح كل يوم يوقظني من النوم، ويهدهدني في فراش الطفولة بكلمات مقصوصة مضغوطة في تنغيم قليل وتمطيط ومعابثة، فلا ألبث أن أستيقظ لذلك الوجه الراعي الواحد الذي ما كنت أعرف غيره بعد في دنياي يومئذ.
تلك هي الإلتماعة الأولى التي أدركت بها وجودي وابتدأت روحي على نورها الضئيل تدخل رحاب الدنيا وتستفيق من ذهول الطفولة.
وتلك هي الصورة الأولى للدنيا في نفسي: وجه صبيح باسم راحم يطالعني مع نور الصبح الندي الجميل، ويعابثني بيد رحيمة رفيقة. . .
وكذلك تدخل الدنيا إلى وعي الطفولة في إطار من الحب والرحمة والحنان والابتسام. . .
وكذلك كانت الأمومة السفير الأول من الله للنفس البشرية يرسله إلى الوافد المولود يرحب به على عتبات الوجود، ثم يدخل به في ترحاب داخل العتبات. . ألم يقل (أنا الرحمن وأنت الرحم).
ومازال هذا الوجه يرعاني بعينيه حتى أغمضتهما بيدي الإغماضة الأخيرة في مساء الجمعة الحادي عشر من ذي الحجة الماضي، بعد أن انطفأ فيهما نور الحياة، فوضعت ذلك الوجه في ذلك القبر الذي ضرحنا له فيه.
ومنذ أن شببت عن الطوق ومضيت في طريقي إلى الاكتمال وبلوغ الأشد، ومضت هي في طريقها إلى الذبول والأفول تيقظت لهذا اليقظة الكبرى وأدركتها بالفكرة كما أدركتها قبل بالإلهام، وعرفت موضعها مني وموضعي منها كروح انبثقت من روحها وجسم كون من جسمها وصار حبي إياها ينمو ويشتعل بذلك اللهيب الأبيض الدافئ اللذيذ الذي ينضج القلب ويهيئه للحب الأكبر الذي تعمر أسراره جوانب الكون الجميل.
صار حُبيها أوسع محراب أقف فيه لأشهد منه الكون في أروع صورة من صوره ذات التهاويل والتعاجيب! وكنت أحس حركة قلبي حين يكون في جوارها فأستلمه بكفي من فرط الشعور به وشدة الحركة فيه. . . أقول حقاً أيها القارئ ولا ألعب بألفاظ!