وقد أتيح لي من إدراك أمي بفكري الكامل ما لم يتح لي من إدراك أبي رحمه الله، فقد توفي منذ سبعة عشر عاماً، قبل أن يدخل على من إرهاف الحس وتوفز الشعور بالحياة وعجبها ما دخل! ولذلك اكتفيت من رثائه يومئذ بدموع يوحدها مع أنه كصورة من أحق صور العلماء بالتسجيل والبيان لعمق روحه وفكره - وحسبك من رجل كان يستحي من نفسه!
أما أمي فقد أنسأ الله لي في أجلها حتى أدركتها الإدراك الكامل، فكانت منبعاً فياضاً من ينابيع الشعر في نفسي. وقد كتبت عنها مرات خطراتي اليومية، وأدركت منها أن الأمومة هي منبع الخير والرحمة والحب والبر الذي في الدنيا وليس الخير كما يتوهم (نيتشه) فلسفة الضعف ووسيلة الضعفاء والعبيد إلى خديعة الأقوياء والسادة ليتوقوا به بطشهم ونكالهم، وإنما الخير والبر والرحمة هي فيض الأمومة على أبنائها في أسرتها الصغيرة ومن الأسرة الصغيرة انتقل ذلك الفيض إلى الأسرة البشرية الكبيرة في الأمة والأمم.
فلولا الأم لاستمر اقتتال الأخوة على الطعام والمقتنيات كما يقتتلون ويتنازعون أول دخولهم الحياة، ولكنها لا تزال توصي الأخ بأخيه وتحببه فيه وتربط ما بينهما حتى يشبا ويجدا طعم الدم الواحد في قلبيهما ويذكرا الجذع الواحد الذي تفرعا منه، ثم يتسع معنى الرحم بتفرع الأسرة حتى تصير قبيلة ثم أمة وهكذا.
فليس منبع الخير هو الضعف كما يفلسف (نيتشه) نبي النازية الكاذب الذي تأثرت الهتلرية وإضرابها بفلسفته وصدرت عنها في حرب البطن وخيلاء القوة، وإنما منبعها قوة الأمومة الصبور الحاملة أمانتها في جلد ورضا وغبطة ورحمة، وأعظم بها أمانة! لأنها أثقل تبعة وأعظم رسالة!
كتبت عن أمي في سجل خطراتي في ١٣ - ٨ - ١٩٣٩:
(هذه أمي! هذه أمي العجوز الجليلة، تكلمني وأنا لا أستمع لأحاديثها لأني مشغول بالتفكير فيها وعلاقتي بها، ونهايتها. . .
ما أبسطها قضية إذا نظرت إلى سطوح الأشياء بدون تفكر في الأسس والنسب التي قامت عليها! وهي أم ككل الأمهات الكثيرات، والدات الحيوان والأنسان، لا تستحق الشعر والفلسفة، ولا تستلزم أكثر من السعي عليها والطاعة لها والبر بها كما يحدث الدين. . . ولكنها عند الفكر محراب مسحور لا تستطيع أن تفلت من بين يديه إلا بخيال وخبال!