أننا عْمُىُ الأفكار، نمر على أشياء الله بالنظرة الخاطفة والخطرة العابرة بدون أن نؤدي صلاة الفكر.
ووالله! إني حين أجرد أمي من معنى الأمومة الشائع وألبسها ثوب الطبيعة، أشعر لها بشعور هو أعظم وأجل من الحب المبذول للأمهات. . . ولقد أورثني البعد عنها ثلاث سنين، وأنا بالعراق، الفكر كمعنى مجرد من ملابسات المادة. . . وإذا نظرت إليها وتذكرت أن في صدرها وحدة أعظم مكان يحفظ لي الحب الفدائي الرحيم، وأنه المكان الوحيد الذي نجا من أن يكون فيه شر لي، أحسست الدموع تطفر إلى عيني حادرة في غفلة منها هي. . . بل أحسست أن رحمة الله تنظر إلى من عينيها، وأنه لا بد من سجود!
فإذا حدثتني عن شيء من تاريخها وتاريخ أبي معها وتاريخي في دمها ونفسها وآمالها وفصالي منها واعتمادي عليها. . . انهدم كل كياني الفكري حينذاك، وشعرت بدوار من الحيرة والدهشة لإخراج الله رب الحياة لهذه العجائب والحيوات، وأمسكت بيديها، وهي لا تدري السر، وقبلتهما؛ لأني لا أستطيع أن أصنع في أبراد غلتي وإحساسي بها غير ذلك!
كلا! لن تذهب هذه المعاني العلوية إلى التراب أيها المجانين الملحدون المنكرون لبعث!
لابد أن تحيا هذه المعاني ونحيا لها لندركها في دار الشرح والتفسير لكل ألغاز الحياة!
كلا! لن يضرب الله بين قلبي وقلبها وقلب أبي ويفضل بيننا إلى الأبد، فلا نرى ونحس تلك العجائب التي في عالم القلوب!
إنه تبذير أن تضيع هذه المعاني الكريمة بدون رجعة، وما كان الله من المبذرين!
لو علمت أنه لا لقاء بين الأحباء الذاهبين لظللت عاكفاً على قبريهما أخاطب سر قلبيهما كما يخاطب الوثني الأصنام.
إننا سائرون إلى الله نافخ روحه في أجسامنا ومشوقنا إلى أسراره. . .
وما أجمل أن أنهي حالتي الوجدانية هذه بالصلاة مع والدتي لله مصدر وجودنا، ومنه وإليه مصيرنا!
(إن حياتها تدبر، وحياتي تقبل. وإنني صرت أكبر منها حجما وأكثر علماً. إن بريق عينيها ينطفئ وأسنانها تتساقط وشعرها يشتعل شيباً وجلدها يتجعد، وهيكلها يضعف. . . والحيات تسترد آلاتها منها، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، إنها لا تدرك هذه المعاني التي أدركها.