ساءت الحال في بلاد الشام في القرن التاسع عشر أيما سوء. وانصبت الويلات على سكان هذه البقعة الطيبة من الوطن العزيز انصبابا قويا متلاحقاً، حتى أصبحت هذه البلاد الجميلة مسرحاً لأبشع أعمال الظلم وأقبح أنواع التفريق بين العناصر، ليتمكن ذلك الظلم من السيادة. فكانت فتنة الستين المشؤومة وتبعتها فتن أخرى جعلت من بلاد الشام جحيما فاتكا بالأموال، والحريات والأنفس، فدفعت غريزة حب البقاء فريقاً كبيراً من سكان البلاد إلى التفكير في الوسائل التي يمكنهم بها أن يحققوا رغبة الحياة ورغبة الحرية. فقلبوا النظر في هذا الكون الفسيح الأرجاء باحثين عن بقعة من الأرض يمكنهم أن يعيثوا فيها أحرارا كراما فوقع نظرهم على نور الحرية والاستقلال المتألق في الديار الأميركية بعد ثورتها التحريرية الكبرى فصمموا على الهجرة وركبوا متون الأخطار إلى تلك الديار، ولا يسع المضطر إلا ركوبها. فعاشوا هنالك بالعزم الصادق والإرادة القوية فضمنوا بالكسب الحلال حياتهم والاندماج في النظام العادل حريتهم.
أجل! هجر أولئك العرب بلادهم وأقاموا في بلاد الناس ولكن حب الوطن بقى متمكنا في نفوسهم محركا لعواطفهم.
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
وما كاد يستقر الحال بهؤلاء العرب المهاجرين حتى أخذت الوطنية تعصف في نفوسهم، تأثيرها المقارنات بين حاضرهم في مهجرهم وماضيهم في موطنهم. وتؤججها المقايسات بين حياة السعادة التي يشاركون فيها الأميركيين الأحرار المستقلين، وبين حياة الشقاء التي خلفوا أمتهم العربية تصطلي نارها في بلاد العرب الخاضعة لظلم الحكم وذل الجهل.
أخذت العاطفة الوطنية المكبوتة في نفوس أولئك الأخوان المهاجرين تتململ في مكابتها وتتهيأ للانطلاق من مكامنها في ظلال تلك الحرية الوارفة وأفياء ذلك الاستقلال الرطبة الناعمة وأية وسيلة لإشباع رغبة الوطنية في مثل هذه الحال من الأدب عل اختلاف أنواعه فنشأ بالأمة العربية هنالك أدب وطني قوي يمثل العاطفة الوطنية القوية في نفس العرب، وأخذ هذا الأدب شرق بنوره وينصب بحرارته على نفوس العرب في سائر