للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[صور من الشعر الحديث في العراق]

للأستاذ إبراهيم الوائلي

تمهيد

كانت بداية النهاية في كانون الثاني (يناير) من السنة ١٢٥٦ حين هاجم هولاكو أسوار بغداد ولم يفد معه عرض الصلح الذي تقدم به ابن العلقمي وجاثليق النصارى.

وفي اليوم العاشر من شهر شباط (فبراير) من السنة نفسها استيقظت بغداد فإذا بها أمام تيار عارم لا يقف عند حد ولا يريد أن يقف عند حد. تيار من الوحشية التي تستعذب دماء الناس وتستمرئ لحومهم وإذا بالسيف والنار يقدمان لهذا الجائع موائد من الدماء واللحوم يدوسها بأقدامه ضاحكاً ساخراً. والناس من أهل بغداد وما جاور بغداد حيارى واجمون يعصف بهم الرعب ويجرفهم الخوف وتشتد بهم العاصفة من كل جانب فلم يجدوا من أن يودعوا خليفتهم الذي استسلم وخضع. ومجدهم الذي توارى واحتجب وحريتهم الإسلامية التي انتهكت وأهينت. ولم يجدوا بداً من أن يستقبلوا فاتحاً متغطرساً سفاكاً مستبيحاً، كل ذلك على مضض منهم وكره. واستسلمت بغداد لحد السيف وأسلمت تراثها لألسنة النار وأمواج النهر، تلك تلتهم وهذه تبتلع، وانطوى العصر الذهبي بعظمته فلم يعد التاريخ يسمع غير الهمسات الخفيفة والنأمات العابرة والصدى المبحوح وحتى هذا الصدى أخذ يختنق تحت وطأة العجمة الطاغية والوحشية الحمقاء. ولوحقت اللغة العربية وآدابها في كل مكان وطوردت في كل مرفق تجتث أصولها وتشذب فروعها ويغرس مكانها الجهل والعماية.

وبقيت بغداد وسائر المدن العراقية تغط في نومة طويلة أحقاباً وسنين سماها المؤرخون (الفترة المظلمة) ولم يخطئ المؤرخون في هذه التسمية فقد كانت هذه القرون التي مرت على العراق زاخرة بالجهل والتأخر والانحطاط والانتكاسة العميقة فلا عدل ولا إصلاح ولا أدب ولا دراسة ولا تعليم، الأخيال باهت يلوح بين جدران المساجد والبيوت في الحواضر العراقية، وإلا لمحات قليلة لا تقع من تأريخ الأدب الصحيح على مكان إذا استثنينا العلوم الدينية والتاريخية التي لم تركد كل الركود. بالرغم من ذلك كله فإن اللغة العربية في العراق بقيت تصارع وتكافح وتهدأ حيناً وتثور حيناً آخر، تكافح عدواً عنيداً لا يكتفي بما يبتزه من خيرات ومنافع بل يحاول القضاء على هذا الطابع الذي تتميز به الأمة - وطابع

<<  <  ج:
ص:  >  >>