للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وراء المنظار]

صراع. . .!

سألتُ صديقي الأستاذ (عين) أن يعيرني منظاره ساعة من زمان، علَّي أرى من خلاله ما توسوس به نفوس قوم قضيت بينهم عمراً من عمري، أحسن الظن بهم، وأقربهم إلى نفسي خشية أن يستشعروا الوحدة، وأنزل لهم عن بعض مالي خيفة أن يجدوا لذع العوز، وأواسيهم في البأساء ضناً بقلوبهم أن يأكلها الأسى و. . .؛ فلما أعرضت الأيام عني، انطلقتُ أفتش عبثاً، وإذا أنا على حَيْد الطريق، وحيداً تكاد تعصف بي أعاصير الحياة لولا بقية من أمل. . .

وأراد صديقي الأستاذ (عين) أن تكون له عندي يد أخرى، فقدَّم إلي منظاره في رضى، فوضعته على أنفي في خيلاء، ودلفت إلى الشارع في أناة وتؤدة، وهو من ورائي يشيعني بنظراته الباسمة

وخشيت أن ينزلق المنظار من على أنفي وأنا أتخطر في مشيتي، ومالي عهد بالمناظير، فيتحطم وأنا به ضنين؛ فانتحيت ناحية أصلح من شأني وشأنه، وأزوَّر في نفسي أمراً، فما راعني إلا صوت يناديني باسمي

والتفت فإذا صديقي (م) وزوجته يسيران الهوينى جنباً إلى جنب وذراعاً في ذراع، وقد عرته حمى الضحك حين رآني أقلب المنظار بين يدي، أضعه على عيني مرة، وأخلعه مرة، في حيرة وتردد؛ غير أني تغاضيت عن مجونه وأنا أدنو منه

لقد نشأ صاحبي (م) - كما نشأت أنا - بين ربوع الريف في ظل القرية الوارف الجميل، لم تلوث المدينة دمه الطاهر، ولا دنست الحضارة قلبه الزكي. عرفته وعرفني أول عهدي بالمدرسة، فهو أول من جلست إلى جانبه في فصل، وأول من تحدثت إليه في مدرسة، وأول من سكنت إليه في درس، وأول من لاعبته. . . ودرجنا ودرجت معنا الصداقة الجميلة الرفّافة، والأيام تجمع بيننا وتفرق، ونحن على عهد من الود لا نقطعه، وميثاق في الهوى لا نخيس به، وفي القلبين أواصر لا تستطيع نوازع الحياة أن تعبث بها، ولا تطمع حاجات العيش في أن تطغى عليها

وبهرت المدينة صاحبي أول ما هبط القاهرة، وهو قد هبطها طالباً في الجامعة، فاستلبه

<<  <  ج:
ص:  >  >>