للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[دعابة الجاحظ]

بقلم محمد فهمي عبد اللطيف

كان أبو عثمان الجاحظ لوقته شيخ الأدب، وفخر العرب، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، إن تكلم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدل، وكان إلى جانب هذا كله ظريفاً مرح النفس، يحرص على النادرة ويحتفل بها، ولو كان فيها ما ينال من شخصه، ويمسه في سمته. ولما كان الأدباء قد أكثروا القول عن الجاحظ في أدبه وفنه، وعلمه وتحقيقه واقتداره على الكلام والجدل، فقد رأينا أن ننظر إليه في دعابته ومرحه؛ وإنها لناحية للباحث فيها مراد ومنزع، وللقارئ منها متاع ولذة. ولعل من الخير قبل الإمعان في البحث أن ندحض وهما يقوم في رؤوس بعض الناس إذ نجدهم ينكرون ذلك على الجاحظ وأضراب الجاحظ، لأن كرامة الأديب أو العالم في رأيهم أكبر من أن تكون مصدر عبث ومجانة، وأرفع من أن تبتذل في الضحك والتنادر، وقديما قيل: ليس لمزاح مروءة، ولا لممار خلة. ولقد رأيت ابن قتيبة لما أراد أن يثلم الجاحظ لم يدخل عليه إلا من هذه الجهة إذ قال: إنه كان يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث. وفات هؤلاء الناس أن الإنسان حيوان ضاحك باك بطبعه، وأن الله قد خلق فيه الضحك قوة تعينه على استساعة هذه الحياة المريرة، كما خلق فيه البكاء قوة تقف به موقف العظة والاعتبار. وقد روي فيما روي عن الحسن البصري أنه قال: حادثوا هذه القلوب فأنها سريعة الذبول، وارعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنكم إن لم ترعوها تنزع بكم إلى شر غاية!! ومما جاء في التاريخ أن عبد الله بن طاهر جلس مجلسا أنصف فيه من وجوه القواد، وأمراء الأجناد، وضرب العناق، وقطع الأيدي، وردّ كبار المظالم، ثم قام وقد دلكت الشمس، فتلقاه الخدم، فأخذ هذا سيفه، وهذا قباءه، وهذا إزاره، فلما دخل دعا بنعل رقيقة فلبسها ثم رفع ثوبه على عاتقه وتوجه نحو البستان وهو يتغنى:

النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم

قال عيسى بن يزيد: وكنت جريئا عليه، فجذبت ثوبه من عاتقه وقلت له: أتقعد بالغداة قعود كسرى وقيصر، ثم تعمل الساعة عمل علوية ومخارق؟! فردّ ثوبه على عاتقه وهو يقول:

<<  <  ج:
ص:  >  >>