لابد للنفس إن كانت مصرفة ... من أن تنقل من حال إلى حال
ومن أولى - رعاك الله - بأن يصرف نفسه من حال إلى حال، ومن أحق بالاسترواح والانشراح من ذلك العالم أو الأديب الذي يصهر ذهنه في خدمة الإنسانية، كالذبالة تضيء للناس وهي تحترق؟ وهل هو يفعل في ذلك إلا ما تقضي به إنسانيته، وتدفعه إليه طبيعته؟ فإذا طاب لنا أن نقف بهذا وأمثاله موقف التزمت والوقار في كل فترة من فتراتهم، فنحن في الواقع نجردهم من نصف إنسانيتهم ونعطل فيهم قوة خلقها الله لهم مباءة للرفاهية والراحة، بل نحن نبقي لهم حياة هي الكرب الآخذ بالخناق، والجحيم الذي لا يطاق (وإني لأعجب لبعض الناس أن تطرق إلى عقولهم تلك العقيدة الغريبة وهي أن حياة الأبرار في الجنة، أرفع وأشرف من أن يدخلها الضحك، ويكون فيها التنادر. ولقد رأيت كثيرا من هؤلاء يهيئون نفوسهم في هذه الحياة الدنيا لاستقبال تلك العيشة العابسة التي يزعمونها في دار النعيم، فهم يطردون من صدورهم كل ميل إلى السرور والانشراح، ويكشحون عن صحائف وجوههم كل لمحة من سنا البشر والطلاقة. وكثيرا ما أصادف في غدواتي أحد هؤلاء العابسين فينظر إلي كمن عرفني نظرة موحشة شزرة، كأنما هو قاضٍ سماوي قد هبط إلى هذا العالم ليحكم بأقصى العقوبة على كل من يعرف، ومثل هذا الرجل يقطع ولاشك ذنب هرته إذا هو صادفها تعبث به، فبالله سله من علم الهرة أن تعبث بذنبها؟!.)
هذا وللجاحظ في هذا المعنى كلام حسن هو من أقوم ما قيل في بابه، وأدق ما أتى في معناه، وإنما ساق الرجل الحديث في ذلك وهو ينضح عن نفسه، ويدحض شبهة كالتي نعالجها، إذ خاف - وهو العالم الأديب - أن يتهم بالنزق والسفه من أجل ما يستروح به من المزح والفكاهة، وبسوقه من الطرف والتنادر. والظاهر أن مسألة الجد والمزاح كانت من المسائل التي شغلت الأذهان في عصر الجاحظ، فكثر حولها القول، وطال فيها الخلف والتضارب، وما كان ذلك إلا نتيجة لازمة لتلك الحياة الفكرية التي كان عليها القوم، وهي حياة مضطربة لم تأخذ وضعها من الاستقرار بعد، ولم تكن قد خلصت من شوائب الأخذ والرد، فهناك علماء الفقه والسنة مازالوا يتلمسون نصوص الشريعة يطبقونها على ما أمامهم من مظاهر وظواهر، وتبيان ما هو حلال منها وما هو حرام، والى جانب هؤلاء جماعة يتولون الوعظ بأحوال السابقين، والزجر بالقصص والآثار، وإن فيهم من لا يتورع