للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[سر الخلود في الشريعة الإسلامية]

للأستاذ محمود شلتوت

إنما شرعت الأديان لتصفية الارواح، وتخليص العقول من شوائب العقائد الفاسدة، لتؤمن بالله خالق الكون ومدبره، وتذعن لعظمته، وتعترف بوحدانيته، وتسلم من الخضوع والعبودية لكل ما سواه، وتتبع هداه وتسلك صراطه السوي فلا تضل ولا تشقى.

هذا هو الجوهر الذي قامت عليه سائر الأديان منذ عرفت الأرض هداية السماء، وهذا هو (الإسلام) الذي دعا إليه جميع الأنبياء، وهذا هو الوحي الذي أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى به إلى نوح والنبيين من بعده، وهذه هي الوصية التي (وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون).

تختلف الشرائع وراء هذا الجوهر في التفاصيل: فصور العبادات ليست واحدة، وأنواع التكاليف متعددة، ودرجات التثقيل أو التخفيف متفاوتة، كل ذلك باختلاف الأمم والأحوال والأزمان (لكل جعلنا منكم شرعه ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم).

وقد قضت حكمة الله أن يضل هذا التدرج بالناس عصرا بعد عصر، ورسالة بعد رسالة، حتى تصل البشرية إلى مرتبة من النضوج الفكري والسمو العقلي، تتهيأ معه للاستقبال شريعة كاملة باقية، لا تنسخ بغيرها، ولا يأتيها الباطن من بين يديها ولا من خلفها، فكان ذلك في عصر محمد صلى الله عليه وسلم: اصطفاه الله لهذه الرسالة الكبرى بعد أن دعاه ورباه وصنعه لا عينه، ثم انتزعه من بيت الشرك والوثنية والكبر والعنجهية والثبات على الباطل الموروث إلى بيئة أخرى فيها صلاحية ولها استعداد لقبول دعوة الحق، فهاجر إليها مع صفوة من أهل الإيمان الراسخ، والولاء الثابت، يحبون الله ورسوله حبا لا تشوبه شائبة من أغراض هذه الدنيا، ويتسابقون إلى السمع والطاعة مخلصين راضين.

في هذا الجو الملائم وبين الأنصار والمهاجرين، اخذ الوحي ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم بتفاصيل هذه الشريعة في العبادات والمعاملات والأخلاق، وأخذت جماعة المسلمين تتركز ويتكون قانونها العام، واستمر ذلك بالتدرج مدة عشرة أعوام هي حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة حتى اصبح العالم أمام دولة ناشئة قوية لها

<<  <  ج:
ص:  >  >>