للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٢ - الحق والقوة]

للدكتور إبراهيم بيومي مدكور

أستاذ الفلسفة بكلية الآداب

ليست فكرة الحق بأعلى من فكرة القوة، وليست الحقوق الفردية والاجتماعية من الوضوح بحيث تستلفت النظر كالقوى الطبيعية والإنسانية. ومن المحقق أن الجمعيات الهمجية خضعت لسلطان القوة وانقادت لعوامل البأس والشدة قبل أن تعرف لغة الحق والقانون، ولم تتكون لديها فكرة عن الحقوق واحترامها والتعهدات والتزامها إلا بعد أن خطت خطوات في سبيل الحضارة والمدنية. ولعلها لم تعترف أول الأمر ببعض الحقوق إلا لأنها رأت القوة تلزمها بالاعتراف بها، ثم لم يلبث هذا الاعتراف القهري أن تحول إلى شعور باطني اختياري يدفعها إلى القيام ببعض الأعمال راحة للنفس ومرضاة للضمير. ففكرة الحق إذن بطيئة التكوين، والحقوق الإنسانية لم تثبت ولم تنضج إلا بعد أجيال عدة وحضارات متعاقبة، على أنها لا تزال حتى اليوم خاضعة لسنة النشوء والارتقاء، ولا تزال طائفة منها مختلفاً عليها بين الأفراد والجماعات

ويظهر أن الحقوق في تطورها مرت بأدوار عدة، فكانت في أول أمرها دينية شعبية وشكلية مادية مقصورة على فريق من الناس. فلا حق إلا ما أحقته الآلهة، ولا التزام إلا بما أوجبته التعاليم الدينية، والحقوق في جملتها فريضة فرضتها السماء وطاعة أُعد لمؤديها الثواب المقيم ولتاركها العذاب الأليم. فعن القساوسة ورجال الدين تعلمت الجماعات الأولى بعض الحقوق، وإليها لجأت في إقامة شعائرها والمطالبة بأدائها؛ ولهذا لم يكن ثمة فرق في الشرائع القديمة بين أمر ديني وآخر دنيوي، وإنما الأوامر كلها وحي الآلهة، وترجمة لإرادة عليا يقف البشر أمامها خاشعين خاضعين. . . هذا إلى أن الحقوق كانت في بدء نشأتها شعبية طائفية، فعرفت حقوق الأسرة والقبيلة قبل أن تعرف حقوق الفرد مهما كانت منزلته، وكثيراً ما ضحى به في سبيل قومه وعشيرته دون ذنب أو جريرة، فما كانت له شخصية معروف ولا وجود مستقل محترم. وإذا كانت الحقوق قديماً مظهراً من مظاهر الحياة الدينية، فلابد أن تؤدى على شكل معين وصورة ثابتة، شأنها في هذا شأن الطقوس المختلفة والعبادات المعروفة. وما كانت القبائل الهمجية تفهم من الحق إلا مظهره

<<  <  ج:
ص:  >  >>