لست أغلو إذا زعمت أنني في مطلع نشأتي الأدبية كان (مصباح الشرق) عندي هو المثل الأعلى للبيان العربي. وبهذا كنت شديد الاكباب على قراءته، وتقليب الذهن واللسان في روائع صيغه وطرائف عباراته. حتى لقد كنت أشعر أنني أترشفها ترشفاً لتدور في أعراقي وتخالط دمي، وتطبع ملكتي على هذا اللون من البيان الجزل السهل الناقد الطريف. ولكن (ما كل ما يتمنى المرء يدركه)!
ولقد كنت فتى مولعاً بالصناعة، شأن أكثر نابتة المتأدبين في ذلك العهد. فلما أرسل محمد المويلحي في المصباح (أحاديث عيسى بن هشام) زادني وزاد لداتي به فتوناً.
كيف تمثل لي محمد المويلحي؟:
لم تكن عيني إلى هذا العهد قد وقعت قط على محمد المويلحي ولا خيار المرء في تمثل صورة من لم ير من الأناسي، وما لم يشهد من البقاع. فكانت الصورة التي جلاها علي الخيال لهذا الرجل، صورة شاب معتدل القد، وضئ الطلعة، وسيم الوجه قسيمه. وما كان ذلك البيان الجوهري ليجلو علي من الرجل غير ذلك. على أنني كنت أرى أباه إبراهيم بك الحين بعد الحين في زياراته لوالدنا، عليهما رحمة الله، وفي زيارات والدنا له (بعمارة البابلي) يوم كنت أصحبه. وكان هذا المويلحي تحفة من تحف العصر التي قل أن يجود بمثلها الزمان: قوة لسن، واشتعال ذهن، وحضور بديهة، وسطوة نكتة، وسعة علم بالزمان وأحوال الناس. أما سرعته وتوفيقه في إيراد الشاهد من عبر التاريخ، ومأثور الآداب من منثور الكلام ومنظومه، فهذا ما لم يتعلق بغباره فيه أحد. فكان مجلسه متاعاً من أعظم المتاع
على أنني لم أوفق إلى رؤية المويلحي الابن مرة واحدة!
وتتابعت السنون، وخلص تحرير (المصباح) إلى محمد. ثم امتحنه القدر بحادثة اعتداء يسير عليه من بعض الطيش من أبناء (الذوات) في إحدى القهوات. وانتهى الخبر إلى المرحوم الشيخ علي يوسف، وكان في صدره موجدة شديدة على محمد وعلى أبيه لما كان بينه وبينهما من كيد وصراع، فانتهز الفرصة وروى الحادثة في صورة مهولة، واستدرج