للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[كيمياء الأفكار والعواطف]

للأستاذ أحمد أمين

كان القدماء يفهمون من (الكيمياء) الإكسير المنشود، الذي إذا عثر عليه وأضيف إلى الزئبق أو الفضة بكمية محدودة، تحت حرارة معينة، انقلب الزئبق أو الفضة ذهباً إبريزاً، وليس يعنينا هنا أن نبين ما أنفق الناس من جهد في الوصول إليه، ولا ما أنفقوا من مال وزمان في سبيل العثور عليه، ولا ما ملئت به كتب الفلسفة الإسلامية من جدل في إمكان ذلك أو إستحالته، إنما يعنينا هنا أن نقول إن العلماء والأدباء نقلوا استعمال هذه الكلمة إلى المعاني بعد أن كانت قاصرة على المادة، فسمى (الغزالي) كتاباً من كتبه (كيمياء السعادة) يعني بذلك الإكسير الروحي الذي إذا عثر عليه الإنسان حظي بسعادة، وقد استعملها ابن الرومي استعمالاً ظريفاً في معنى قريب من هذا، فقال يهجو أبا الصّقر

عَجبَ الناس ' مِنْ أبي الصّقْ ... رِ إذولّي - بعد الإجارة - الديوانا

إنّ للجَدّ كيمياَء إذا مَا ... مَسّ كلباً أحاله إنسانا

يفعل الله ما يشاء ' كما شا ... ء متى شاء كائناً ما كانا

ثم سار الزمن الذي يغير كل شيء، فغيّر - فيما غيره - مدلول كلمة (الكيمياء) وجعله قسيماً للطبيعة، فكما أن الطبيعة اختصت بالظواهر التي تغير صفات الأشياء ولا تغير جوهرها، اختصت الكيمياء بدراسة الظواهر التي تغير جوهر الأشياء، فاتسع مدلولها، وصار آخر ما تفكر فيه تحويل المعادن إلى ذهب إن كانت تفكر فيه، والذي أريد أن ألفت إليه النظر في مقالي أن هناك كيمياء في الأفكار والعواطف تشبه تلك التي في المادة، إلا أنها أعقد منها، وأصعب حلاً، وأغمض اكتشافاً - وإلى الآن لم توضع كتب - على ما أعلم - في كيمياء المعاني على كثرة ما وضع في كيمياء المادة - وإن كانت كتب علم النفس أحياناً تمس هذا الموضوع مسّاً رفيقاً.

فلكيمياء الأفكار والعواطف فصول وأبواب لا عداد لها، قد ينطبق عليها في كثير من الأحيان فصول الكيمياء المادية وأبوابها، ففي كيمياء المعاني ترشيح وتبخير وذوبان كالتي في كيمياء المادة، وفيها تبلور وتقطير، وفيها عناصر ومركبات ومخاليط، وفيها أحماض وأملاح وقواعد، وفيها جزيئات وذرات لها أوزان وكثافات - ولها رموز وقوانين أدق من

<<  <  ج:
ص:  >  >>