ولقد حاول الفرس مراراً الاستقلال عن العرب وطرح حكمهم ودينهم منذ ملكوهم، وقد اختفت هذه المحاولات أولا بعد خيبتهم فيها - كما قدمنا - ثم عادت إلى الظهور في أواخر الدولة الأموية. والقارئ لتاريخ عمر وعثمان وعلي والدولة الأموية في الكتب المبسوطة كتاريخ الأمم والملوك لابن جرير الطبري والكامل لابن الأثير وكتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون وغير ذلك تهوله كثرة انتفاضات الفرس على العرب في البلاد الفارسية، ومما يدل على أن الاستقلال كان وسواسا لازبا في عقول سادة الفرس.
وما أظن أبا مسلم إلا بطلا فارسيا كان يرمي إلى هدم السلطان العربي والإسلام، وما لسبب غير ذلك حول أبو مسلم الملك عن العلويين إلى العباسيين بأن العلويين أحق منهم بالخلافة مادام الأمر أمر قرابة من النبي. وما ثار بعده تلميذه سنباذ وثارت الراوندية إلا لهذا الغرض، وما أبري البرامكة من الطمع في هذا الاستقلال مما دعا الرشيد إلى نكبتهم، وما استعان العباسيون بهم إلا وهم يحذرونهم، ويتخلصون منهم في الآونة المناسبة، ولا أهملوا العرب إلا بعد أن يئسوا منهم، ومع ذلك قربوا العرب وأنهضوهم حين خافوا نزوات الفرس ليضربوا هؤلاء بأولئك، وأولئك بهؤلاء حذرا من الفريقين. وما كان النزاع بين الأمين والمأمون إلا نزاعا بين الفريقين، ولا كانت استعانة المعتصم ومن بعده بالترك إلا عن سوء ظن بهما معا مما أدى إلى ازدياد نفوذ الترك على نفوذهما.
غير أن الفرس لم ينوا في طلب الاستقلال حتى ظفروا به على يد الدولة البويهية (٣٣٤ - ٤٤٧ هـ) فقد أكثر العباسيون طوال القرن الثالث الهجري من إقطاع الفرس ولايات المشرق طعمه لهم ولأخلافهم، وهب دهاة الفرس ينشئون في فارس إمارت وطنية، ولكنهم حينما استعادوا بعض أملاكهم وجدوا الإسلام قد أتى على المجوسية، واللغة العربي كادت تهزم الفارسية، فأنابوا إلى الخلفية لأنه الحاكم الشرعي الذي تحب طاعته، ودعوا إلى نصرته استدراجا للعامة تحت سلطانهم، ومع غلبة الإسلام على مجوسيتهم لم يقض على عصبيتهم، فلما استقلوا بالولايات شرعوا في تجديد لغتهم ونقل ثقافة العربية إليها فنجحوا