وجنوى تشملها شمس إيطاليا الهادئة، ونحن على أبواب مقبرة جنوى
يا عجبي! لم أسمع من قبل أن أجمل ما في مدينة مقبرتها، وأن السياح والراغبين في التفرج عن النفس، والجارين وراء لذائذ العقل والفكر، يهبطون جنوى، فلا يطلبون حدائقها، ولا يقصدون متاحفها، ولا يسألون عن حماماتها أو أسواقها، بل يستحثون الخطى وغايتهم (المقبرة)!!
فأي مقبرة هذه التي يهواها الناس؟ أليست مكاناً اضطجع فيه الناس بعد هذه الرحلة الطويلة التي يقطعونها في الدنيا، بحثاً عن المال، أو هياماً بالجمال، أو عدواً وراء جاه المنصب. . .؟ أما تضم الرفات بعد أن ذاب عنها اللحم الوردي؟ أما تجمع العظام بعد أن تشتتت وانتثرت وانحلت روابطها؟ أما تفوح منها رائحة الذكريات الحزينة: ذكريات الحبيب الذي ترك وراءه قلباً دامياً وعيناً دامعة، وذكريات الولد الذي خلف الأم الولهة، وذكريات الزوج الذي من ورائه أرملة ثكلى. . .؟
أتكون مقبرة جنوى شيئاً يمحو من صدور اليتامى والأيامى والبؤساء والحزانى أحزانهم ويهدئ آلامهم؟ إن تكن كذلك فهي أعجوبة أحْرِ بالناس أن يقصدوها لا ليفرجوا عن أنفسهم برؤيتها، بل ليحملوا إليها كل من فارقهم وكان عندهم عزيزاً، ليشعروا ببرد العزاء وحلاوة السلوان
دلفنا نحو المقبرة؛ ولست أعرف إحساسي وقت أن دنونا من بابها، فقد وقفت بنا السيارة أمام باب ضخم مفتوح على المصاريع، وإلى جانبه حارس؛ فلما اقتربت من الباب نظرت إلى الحارس، وقد حسبت أن طول اقترابه من قبور الموتى جعل له مظهراً خاصاً به، فإذا هو رجل عادي، يرى كل يوم النعوش الرخيصة تتبعها أسر فقيرة، والنعوش الغالية الثمينة، ووراءها الأغنياء الذين يتأنقون في الموت كما يتأنقون في الحياة، والموت يهزأ بهم، وإن كانت الحياة تدللهم!
لقد تعود حارس المقبرة أن يرى أحزان الناس وصور شقائهم، فبردت أعصابه، وتفهت