مآسي الناس عنده، إذ رأى المتباكين الذين لا يحسون بألم، والمفجوعين الذين لا يجدون دمعة يلطفون بها نار صدورهم. . .
ولكن يا ترى ماذا يفعل الحارس إذا أصابه القدر في ابنه أو زوجته أو أمه أو حبيبته؟ أتبقى أعصابه في برودتها، ونفسه في شدتها، ودموعه في تحجرها؟ أم أنه سيفهم آلام الناس من جديد على ضوء النيران المشبوبة في صدره، الملتهبة في قلبه؟
تركنا حارس المقبرة، ورأينا في طريقنا عشرات من الحراس يلبسون على أكتافهم مآزر زرقاً من الصوف، تقيهم برد الشتاء، وتكسبهم وجاهة القواد والوجهاء، وهم يتبخترون في مشية عسكرية وخيلاء، وقد جملوا شواربهم ورفعوها، وحلقوا لحاهم وعطروها، فما عاد هيناً أن تعرف إذا كان هؤلاء حكاماً جاءوا يتنزهون، أم هم أشباح موتى ثقلت عليهم رقدة الموت، فخرجوا يتمشون ويتنفسون. . . إي وربي إنهم أشباح! فالواحد منهم على جلال مظهره، وجمال ملبسه، لا يعدو أن يكون تمثالاً؛ فالأيام تذوب وتدور، وهم في مماشي المقبرة واقفون، يرفعون رؤوسهم إلى السماء، ويخفضونها إلى الأرض، ويضعون خناصرهم وبناصرهم في خواصرهم، لا يشغلهم شاغل! حسبهم من الحياة أنهم وقفوا على أبواب الموت، تاركين وراءهم ضجات الناس وصيحاتهم. . . بل حسبهم من الحياة أنهم يحملون أقل أعبائها، ويرون أصدق حقائقها، فإذا جاءهم بعد ذلك الموت، وجدهم كالموتى، لا أوزار ولا أطماع، ولا ماض يحاسبون عليه؛ ثم وجدهم في المقبرة، يعرفون لحودها ويحفظون حدودها، ويدركون مكانهم اللائق بهم فيها
لقد قسوت على حراس المقبرة! وأحسب أن مظهرهم قد غرني وخدعني. . فكم تخفي الوجوه الهادئة نفوساً ثائرة! وكم يحترق الذين يحسبهم الناس كسالى ونائمين! ومن يدري؟ فلعل أحد هؤلاء الحراس شاب مغامر طاف بالأرض وجازف بالمال القليل الذي كان بين يديه، وبالحياة الغالية التي بين جنبيه، ثم قذف به القدر حارساً لمقبرة، وهو أبعد الناس عن الموت وفكرته، مشغولاً بالحياة ولذتها. . ولكنه يسير كما يسير بقية الحراس، مطرقاً متأملاً، شمخاً، متألهاً، وهو مستغرق في أفكار نفسه وبوده لو يواتيه القدر فينطلق من جديد. . .