يعتبر مؤرخو الفلسفة القرن السادس قبل الميلاد بداية التفلسف الإنساني. والفلسفة إذا قيل في شأنها إنها محبة الحكمة، والتفلسف إذا عبر عنه بأنه البحث عن الحكمة، فمن غير شك أيضاً أن الفلسفة في أول عهدها مجموع المعارف التي حررها الإنسان أو استخلصها من المعارف السابقة على عهدها، وأن التفلسف في بداية عهده أيضاً نظر الإنسان في هذه المعارف السابقة لاختيار ما يصلح منها في رأيه للبقاء. فالفلسفة هي معارف مختارة، والتفلسف هو إعمال الروية في تصفيف المعارف التي كانت متداوله في الجماعة الإنسانية إلى حين التفلسف في القرن السادس قبل الميلاد.
والتفلسف إذا كان تصفية واختيار يفرض طبعاً وجود مجموعة من المعارف بعضها محلاً للتصفية والاختيار. وقبل عهد التفلسف كانت هناك معارف متداولة في الجماعة الإنسانية، ولكنها كانت كلها معارف إلهية، أي كانت منسوبة إلى الآلهة، وكانت طائفة بالذات هي طائفة رجال الدين أو من تسمى بالكهنة تقوم بشأنها وتتعهدها بالحفظ والتناقل والشرح. وما عدا هذه الطائفة من طوائف أخرى كانت تقف من هذه المعارف موقف القابل المطيع الذي لا يسمح له بمعارضة أي نوع منها ولو معارضة نفسية داخلية، فضلاً عن معارضتها بالتفنيد عن طريق الحجة أمام آخرين، فهذه المعارف لها قداستها من الجميع، وقداستها تمنع نقدها وتحتم قبولها.
والإنسانية في جماعات مختلفة وفي أجيال متعددة قبلت المعارف الدينية، وقبولها يتضمن تقديسها وعدم نقدها، وتقديسها وعدم نقدها ينسحب إلى تقديس من يقوم بأمرها وعدم معارضته. وما عرف للإنسان من عمل فيها كان عبارة عن شرحها شرحاً عقلياً يساعد على رواجها لدى أصحاب القلق النفسي من التابعين للدين. وبهذا كان عقل الإنسان في خدمة التعاليم الدينية ولتأييد قداستها وقداسة القائمين بأمرها. وقد نسترسل فندعى أو خدمة الإنسان لهذه التعاليم عن طريق عمله العقلي لم يكن لعهد وجودها ونشأتها فحسب، بل استمرت أيضاً في مراحل تطورها. والإنسان بعقله كما أيدها أيضاً وقد دخلتها صنعة الدين. وربما كان تعظيم طائفة الكهنة وتميزها عن بقية الطوائف في الأمم الشرقية القديمة