للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[مصر والشام]

للسيدة وداد سكاكيني

كنا إذا ولينا الوجوه شطر مصر كالعيس في البيداء، تتلهف ظمأ الماء وهو على ظهورها محمول. فيا عجبا لذاك الحنين الذي كان يطفو على جنبات نفوسنا كموج البحر وهو يمور ويفور، ثم لا يكاد موجه أن يندفع على الصخور حتى يحور يغور، فهو هباء منثور. كذلك كنا إذا هزنا الشوق إلى مصر هفونا إليها من ربوع غسان ودارات أمية، فكانت رياح الحنين غادية غير رائحة، ومقيمة غير مبارحة. ولقد مرت بالشام عهود وأحداث كانت من خلالها بمعزل عن غيرها، لا يبلغ مصر من هذه الديار إلا التجار ونزر من الأخبار ويتلقاها النسيب من النسيب، حتى تصرمت تلك القطائع وتواصلت بعدها أواصر ووشائج، كان وثاقها يشتد على ترادف الأيام؛ ولكن لم تبلغ مداها ولا أدركت مناها، فحنين العرب إلى مصر عريق في الدهر، ظهرت بوادره منذ تطامنت لوادي النيل مقاليد الحكم والسيادة من عهد الخصيب أميرها، وكافور الأخشيدي مليكها، فقد أتاها النواسي زائراً ومدح أميرها بقصيدته التي مطلعها:

أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر

ثم ورد عليها أبو الطيب المتنبي منتجعاً وشاعراً فكان لها في نفسه أثر ما زال أروع طوابع شعره. كأنما أراد الله لمصر بعد أن هوى تاج العز عن رؤوس العباسيين أن يتألق على رأسها فكان لها من المجد والعلم ما كان لعواصم الغرب التي أفادت من علماء الروم بعد طغيان الحرب على بلادهم فكانوا حيثما توجهوا وأينما حلوا ينابيع معرفة وثقافة، فما أديلت العباسية وطوائف الملوك حتى كانت مصر مورداً عذباً لجماعة من العلماء والكبراء، ومثابة لطائفة من المؤرخين والفقهاء، وكأنها قبلة علمية توجهت إليها الأنظار والأفكار، وذلك قبل عهد الانحطاط الشامل الأخير. ولما امتدت يد الظلمة والخمول إلى أرجاء الشرق كانت مصر في البلاد الهاجعة فانطفأت تلك الشعلة الباقية من مصابيح العرب الأوائل، حتى كان البعث الحديث زمن الغزوة النابوليونية ثم أيام النهضة المباركة التي خلق فيها مصر من جديد محمد علي باشا الكبير

وفتح العالم العربي في عينيه بعد سبات عميق، وتلفت المستيقظون صوب البلاد الآمنة

<<  <  ج:
ص:  >  >>