في ليلة حالكة السواد بعدت عن ضوضاء المدينة إلى مكان قصيّ على شاطئ البحر أهرب بنفسي من جراثيم المدنية ووباء الحضارة، وأغسلها من أدران التقاليد والمواضعات، وأطهرها بالانغماس في عالم اللانهاية: في السماء والماء والجو الفسيح الذي لا يحده حد ولا ينتهي إلى غاية
غاب فيها القمر فلعبت النجوم؛ ولو طلع لكسفها وهي أكبر منه حجماً، وأعظم قدراً، وألمع ضوءاً، ولكن دنيانا هذه يسود فيها التهويش حتى في القمر والنجوم
كان سواد هذه الليلة أحب إلى نفسي من ضوء الشمس ونور القمر، فللنفس حالات تبسط فيها فيعجبها البحر الهائج، والوسط المائج، واللون الأبيض والأحمر، والنكتة اللاذعة؛ وتنقبض فتأنس إلى الليل الساكن، والوحدة المريحة، والسكون العميق، واللون القاتم
لك الله أيها الليل! فما زلت بالفن حتى ملكته، واحتويته، فجعل يشيد بذكرك ويرفع من شأنك، حتى لم تجعل لأخيك النهار نصيباً يقاس بنصيبك، فاقتسمتما الزمان عادلة، واقتسمتما الفن قسمة جائرة!
فالمغني يقصر مناداته عليك، ولا يلتفت في هتافه إلا إليك؛ فإذا غنى بالليل نادى الليل، وإذا غنى بالنهار لم يخجل فنادى الليل أيضاً؛ والآلات كلها تتبعه فتردد على أوتارها ما ردده المغني بكلماته. ثم كان اسمك على قلته وضؤولته أداة طيعة في صوت المغني يوقع عليه ما شاء من نغمات: مرحة وحزينة، ومديدة وقصيرة، وعالية وهادئة، وباعثة للقوة واليأس والأمل، وداعية إلى الضعف والخمول والكسل
وحتى المصور! لماذا شغف برسم غروب الشمس أكثر مما شغف بطلوعها إلا لأن غروبها إيذان بقدومك وارتقاب لزورتك؟
أما الأدب فله فيه الباع الطويل والقول الذي لا ينتهي. تداولت عليه الأدباء، فنقموا عليه حيناً، وتذللوا له حيناً، من عهد الأستاذ امرئ القيس إذ يقول:
فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مُغَار الفتل شدت بيذْبُل