(بالله يا ليل تجينا، وتسبل ستايرك علينا)
شكوا طوله وتفننوا في ذلك ما شاءوا، فتخيلوا أن نجومه شدت بالحبال، وربطت في الجبال، أو أن النهار ضل طريقه فظل الليل لا يبرح ولا يتزحزح كالذي يقول بشار:
أضلَّ النهارُ المستنيرُ طريقهُ ... أم الدهرُ ليلٌ كله ليس يبرح؟
أو أن النجوم حارت لا تدري أتتيامن أم تتياسر فوقفت فوقف الليل بجانبها كقول جرير:
أبُدِّلَ الليلُ لا تسري كواكبهُ ... أم طال حتى حسبت النجم حيرانا؟
وشكوا قصره فأبدعوا في ذلك أيما إبداع، فشبهوه بعارض البرق كالذي يقول:
يا رب ليل سرور خلته قِصَرا ... كعارض البرقِ في أُفق الدُّجى بَرَقا
قد كادَ يعثرُ أولاهُ بآخرهِ ... وكاد يَسْبقُ منه فجرُه الشفقَا
وأنكروا من قصره وجوده فقالوا:
وليلة من الليالي الغر ... لم تك غير شفق وفجر
كان هؤلاء الذين يشكون طوله ويشكون قصره يتحدثون بعواطفهم، ويترجمون عن مشاعرهم، فجاء قوم على أثرهم يتحدثون بعقولهم، فقال الفرزدق:
يقولون طال الليلُ والليلُ لم يَطُلْ ... ولكنَّ من يِبكي من الشَّوْقِ يَسْهَرُ
وقال ابن بسام:
لا أظلمُ الليلَ ولا أَدّعِي ... أن نجومَ اللَّيلِ لَيْست تغور
ليلى كما شاَءت فإن لم تَجُد ... طال، وإن جادت فليلى قصير
أيها الليل! كم لففت ثوبك على متناقضات: حزن على ميت، وسرور لميلاد، ومحب مهجور يشكو طولك، ومحب واصل يشكو قصرك، وعابد متهجد يناجي ربه، وداعر فاجر يبغي حظه، ودمعة حري تسلبها أم ولْهَى بجانب سرير مريض، وضحكة صارخة تخرج من فم سكير عربيد، ومجلس أنس تتجاوب فيه الأقداح والأوتار، ويلبس فيه الليل ثوب النهار، بين بدور؛ وكاسات تدور، كأنه مسرح صغير تمثل فيه الجنة بصنوف نعيمها، أو معرض تعرض فيه الملاهي بشتى ألوانها، ومجلس بؤس تتجاوب فيه الزفرات والحسرات، وتتساقط فيه النفوس، قد شرقوا فيه بدموعهم، وتلظى الهم في ضلوعهم، فهم بين كاسف بال، وساهم طرف، ومنقبض صدر، ولهيف قلب