فمن كان يستبعد أن تميد الجبال فليعرف اليوم أن الوجود لا يعرف المستحيل. ومن كان يرتاب في (يوم القيامة) يوم (الفَزَع الأكبر) فليتصور الساعة التاريخية التي اعترف فيها الجيش الفرنسي بأنْ لا فائدة من الدفاع عن باريس
ولكن أي جيش؟
هو جيش صام عن النوم والطعام سبعة أيام إلى أن لم يبق من قُواه غير أشلاء، وكان مع ذلك يحب أن يقاتِل إلى أن يبيد وهو يذود عن باريس، ولكنه خاف على ذخائرها الغالية فقرر أنها (مدينة مفتوحة) ومضى يقاتل قتال اليائس المستميت في مواضع لا قِلاع فيها ولا حُصُون
إذاً حقت المخاوف وسقطت باريس، باريس صاحبة الحق على جميع الشعوب بفضل ما علمت الناس أصول الثورة على الظلم والاضطهاد
فإن قال قائل إن باريس هي عاصمة فرنسا الاستعمارية، فليذكر أنه لم يَثُر ثائرٌ على الاستعمار في مَشرق أو في مغرب إلا وفي روحه جذوة من النار التي أوقدتها باريس للغضب على استعباد الشعوب
أقول هذا وقد لامني صديقٌ على التوجع لمصير فرنسا في مقال نشرته بجريدة الأهرام منذ أسابيع، وكانت حجته أن فرنسا صنعتْ في الشرق ما صنعت، وأنه لا يجوز الحزن على أمة تحملها القوة على أن تبغي وتستطيل
وهل كنت أجهل عيوب الأمم الاستعمارية حتى يدلني عليها ذلك الصديق؟
إن الأسد هو الصورة الفظيعة للبطش والفتك والافتراس، ولكن هل يشمت الُحرُّ بالأسد حين يراه في مدارج الضيم والاستذلال؟
ذلك حالي في التوجع لفرنسا الجريحة، وقد حاربتها بقلمي مرات حتى صح لوزير الخارجية الفرنسية أن يعارض في منحي وسام الأكاديمي سنة ١٩٣١ وهو سرٌّ لم أذعه قبل اليوم، وما أذيعه الآن إلا ليعرف الصديق المتعتِّب أني لا أهتم بغير المعاني.