كانت مصر إذ رحل إليها الشاعر في عهد زاهر مثمر من اكثر نواحي الحياة، فهبط إليها كما يهبط الطائر الصادي على الروض الندى اليانع؛ ينهل من موارده في شوق ويتنقل على دوحاته في طرب، ثم ينثني عنه وقد ارتوى إلى وطنه شاديا مترنما!
فقد أصبحت بعد إن شل المغول عرش بني العباس وأسدلوا على بغداد الستار، مركز الثقافة الإسلامية الأكبر وموئلها الحصين، تنهض فيها جامعة الأزهر والمدارس الأخرى بأعباء الرسالة العظمى للعلم والأدب، وتشترك سلاطينها بأيدٍ عاملة نشيطة في تعضيد هذهالحركة وتغذية روحها بعوامل القوة؛ بما تحدثه من المدارس وما تغدقه في كرم على العلماء والأدباء من هبات وصلات.
وكان عصر السلطان الناصر بن قلاوون من خير عهود دولة السلاطين الأولى؛ إذ كان السلطان نفسهـ كما يقول السير وليم موير - (مثقفاً ثقافة عالية، درس علوم الفقه والقانون ونال شهادة فيها فكان يحب العلم والعلماء ويشاركهم في كل أمر يفيضون فيه) وكثيرا ما يكون الملوك المثقفون نعمة على رسل الثقافة لما يملكون من حسن التقدير لأعمالهم، وصدق الشعور بحلاوةثمراتهم، وقد روي عنه انه اقطع أبا الفداء المؤرخ الشهير ولاية حماة تقديراً لمكانه وجزاء لما قدمه إليه من معونة في بعض الحروب. وفي عهده كانت مصر تنعم بشيء من راحة الظافر بعد أن شلت حركات المغول وأنقذت الشرق العربي من بين براثنهم المسمومة، وبعد أن طاردت حملة الصليب المستكلبين في هدم الإسلام والشرق، وقذفت بهم في قوة إلى البحر! ولكنها مع ذلك لم تكن تغفوا عن حراسة هذا الملك وقطع أذناب العدو كلما امتدت اليه، وهو ملك شاسع مترام يمتد ما بين الفرات والحجاز وآسيا الصغرى وجنوب النوبة، ولما كانت إذ ذاك لا تزال طريق التجارة والرحلة بين أوربا والشرق قبل أن يكشف رأس الرجاء الصالح، وعرفت مصر كيف تستغل هذا المورد الثرى أحسن استغلال، وكانت تجبى إليها ثمرات تلك (العاهلية) الكبرى، فقد حازت من المجد المالي ما يمكنها من مواصلة السير في طريق مجدها العلمي والحربي.