لذلك لا نعجب أن نرى القاهرة حينذاك تموج بوفود رجال العلم والأدب فتحسن وفادتهم، وان نسمع صفى الدين وقد أقبل إليها فانتظم زمنا في حاشية الملك الناصر يصوغ آيات المدح لمصر ومليكها، ويعود إلى وطنه فيلهج بأجمل الذكريات لما لقي فيها من روعة الكرم وحسن الضيافة. وقد اتصل أثناء أقامته في مصر بحلقاتها الأدبية التي كان يمثل زعامتها الكتابية (علاء الدين بن الأثير) رئيس ديوان الإنشاء، وزعامتها الشعرية (جمال الدين بن نباتة) الأديب الشهير، وتوثقت بينهم جميعا روابط الصداقة والإخلاص، فلم يفتأ بعد رحيله يتراسل معهم في مساجلات أدبية ممتعة تعبر عن عواطف الشوق ويعترف في إحداها بزعامة ابن نباتة لجميع الشعراء
والآن نستعرض إحدى قصائده التي تجمع بعض هذه الأمور، وقد قالها يوم احتفال مصر بيوم الخليج وابتدأها بوصف الربيع في مصر:
خلع الربيع على غصون البان ... حللا فواضلها على الكثبان
وتتنوجت هام الغصون وضرجت ... خد الرياض شقائق النعمان
وتنوعت بسط الرياض فزهرها ... متباين الأشكال والألوان
والظل يسرق في الخمائل خطوه ... والغصن يخطر خطرة النشوان
وكأنما الأغصان سوق رواقص ... قد قيدت بسلاسل الريحان
واستمر هكذا في أوصافه الجميلة التي يعبر بها عما أودعته طبيعة مصر الفاتنة في نفسه حتى قال:
إني وقد صفت المياه وزخرفت ... جنات مصر وأشرق الهرمان؟
واخضر واديها وحدق زهره ... ونيل فيه ككوثر بحنان
وبه الجواري المنشآت كأنها ... أعلام بيد أو فروع قنان
نهضت بأجنحة القلوع كأنها ... عند المسير تهم بالطيران
والماء يسرع في التدفق كلما ... عجلت عليه يد النسيم الواني
وأخذ بعد ذلك يصف السلطان بقوة والفصاحة والسيادة على جميع الملوك، وليس الملوك في الحقيقة إلا مظاهر للأمم من أكثر الوجوه، فإذا كانوا أقوياء أو كرماء فما ذلك إلا فيض أممهم ومنحة رعاياهم، وإذن فكل مدح للملك إنما يتجه إلى الأمة التي أكسبته أسباب المدح