ووهبته ما يتيه به من أثواب المجد. ونود أن نشير هنا إلى أن مصر لم تكن تنظر إلى سلاطينها الذين كانوا في الأصل مماليك إلا بعين التجلة؛ لأنها كانت إذ ذاك تفهم معنا الوطنية كما يقرره الإسلام، دينها الذي تعتز به، وهو دين ديمقراطي حر يأمر أهله ألا يأنفوا من الحاكم المسلم العادل ولو كان عبد حبشياً. كذلك لم يكن هؤلاء السلاطين في نظر مصر إلا جنداً مسلمين تربوا في أرضها ودافعوا طويلاً عن مجدها ثم ارتقوا باستيلائهم على شؤونها الحربية إلى عرش الملك، فرضيت بهم وعهدت إليهم بتمثيل قوتها في السياسة والعلم والحرب، فمثلوها احسن تمثيل، ثم لما فرغ دورهم أرخت عليهم السدول وبقيت مصر هي مصر الخالدة.
ومما قاله صفي الدين في أحدهم وهو الناصر المذكور:
لا عيب في نعماه إلا أنها ... يسلو الغريب بما عن الأوطان
شاهدته فشهدت لقمان الحجا ... ونظرت كسرى العدل في الإيوان
وشهدت منه فصاحة وسماحة ... أعدى بفيضهما يدي ولساني
ملك إذا اكتحل الملوك بنوره ... خروا لهيبته إلى الأذقان
وقال:
أبقا قلاوون الفخار لولده ... إرثاً وفازوا بالثناء مكسبا
قوم إذا سئموا الصوافن صيروا ... للمجد أخطار الأمور مراكبا
عشقوا الحروب تيمنا بلقا العدا ... فكأنهم حسبوا العداة حبائبا
وكأنما ظنوا السيوف سوالفا ... واللدن قدا والقسىّ حواجبا
يا أيها الملك العزيز ومن له ... شرف يجر على النجوم ذوائبا
أصلحت بين السلمين بهمة ... تذر الأجانب بالوداد أقاربا
وحرست ملكك من رجيم مارد ... بعزائم أن صلن كن قواضبا
كان لصفي الدين قدرة فائقة في رسم المناظر الأخاذة بدقة الفني وتأثر الشاعر، وذلك لما وهبه من ميزتين عظيمتين: إحداهما دقة النظر وصدق المشاهدة، والأخرى قوة الابتكار والتخيل. فقد كان يدرك بالأولى جزئيات الأمور ونواحي المناظر التي تخفى على غير الموهوب، ثم يتولى خياله ما أدركه فيحكم نسجه ويضفي عليه الوانه، ويزيد فوقه نقوشه،