فإذا بوصفه قطعة فنية رائعة تثير الإعجاب.
قام الشاعر برحلات عدة كما ذكرنا قبل، في صحاري العرب والشام ومصر، وانتظم أزمنة طويلة في حواشي الملوك الذين كان لهم غرام وشغف بالنزه الخلوية في أودية حماة والحلة وماردين فكان ذلك داعيا لشدة قربه من الطبيعة ومذكيا حبه لها، ولما كان بفطرته يملك نفسا شاعرة فقد استجاب دعوة الجمال واخذ يرصد الطيور حائمة في الجو، والوحوش هائمة في الصحراء، والحيوان الأليف والسائم ينقش صورها جميعا في شعره نقش المصور الماهر، وفي ديوانه أمثلة كثيرة لكل هذه الأوصاف.
ومن مظاهر أوصافه الدقيقة أيضاً وصفه للخمر ومجالس الندامى، فان الصفي كان رجلا طروبا متهافتا على موارد اللهو والسرور، يشرب من لذائذه الكؤوس الدهاق: يعاقر الخمر ويعشق النساء والولدان ويختال بين الرياض، ويتجول في الصحراء؛ غير آبه لما حرم من اللذة أو حل، وذلك لأنه اتخذ لنفسه مذهبا خاصا في فهم أحكام الدين يطاوع هواه كل المطاوعة، وقد عبر عن هذا المذهب بقوله:
فارتكب اجمل الذنوب لنفع ... واعتقد في ارتكابه التحريما
ثم تب واسأل الإله تجده ... لذنوب الورى غفورا رحيما!
وتمادى في هذا المذهب حتى احل الخمر صراحة فقال:
نهى الله عن شرب المدام لأنها ... محرمة إلا على من له علم
وذاك بقدر الشاربين وعقلهم ... ففي معشر حل وفي معشر حرم
ولو شاء تحريما على كل معشر ... لقال رسول الله لا يغرس الكرم!
ولو صدق هذا المنطق المموه لكان العلم رخصة مؤذنة لأهله أن يرتكبوا كل لذة أثيمة، ولأنه قد مارسها فعلا واغتبق من كؤوسها واصطبح، عرف كيف يتغزل في محاسنها ويصف آثارها بمهارة تشهد له بالقدرة الفنية. ومما قاله:
سلاف تميت العقل في حال شربها ... وتنعش منها الروح والجسم والقلبا
محجبة وسط الدنان ونورها ... يمزق من لألاء غرتها الحجبا
إذا مسها وقع المزاج تألمت ... وأزبد منها الثغر وامتلأت رعبا
واعجب من بكر لها الماء والد ... وترجع إني رام تقبيلها غضبى