صدر أخيراً في باريس كتاب عنوانه (مدام دي فرنس) وهو عنوان لا يثير لأول وهلة كبير اهتمام؛ ولكنا متى علمنا أن صاحبة هذا الاسم هي المرأة التي كان لها أكبر أثر في حياة جان جاك روسو الكاتب والفيلسوف الأشهر، وأنها إذا لم تكن معروفة شهيرة لذاتها فان روسو يخلدها في آثاره، ويفرد لها في (اعترافاته) أو ترجمة حياته أكبر مكانة، استطعنا أن نقدر أهمية بحث يتناول هذا الجانب من حياة روسو، وما كان له من عظيم أثر في تكوين تفكيره وفلسفته.
نلمس أثر المرأة في حياة كثير من عظماء الرجال، وتمتاز هذه الشخصيات النسوية في أغلب الأحيان بخلال قوية بارزة تمكن لها في النفوذ والتأثير؛ ولكن مدام دي فرنس تبدو لنا في صورتها وخلالها شخصية عادية، لا تخلق في ذاتها لأن توحي بشيء من مقومات العظمة أو البطولة؛ وكان مثولها في حياة روسو أيام كان فتى مغموراً شريداً لا قيمة له في مجتمع وطنه وعصره. على أن هذه الصلة طبعت نفس روسو وروحه بأعمق طابع، وأثرت في عواطفه وتفكيره أعظم تأثير، وأثارت من قلمه عن مدام دي فرنس وعن صلاته بها تلك الصحف المؤثرة البديعة التي نعتقد إنها أجمل ما في (الاعترافات).
كانت لروسو مع مدام دي فرنس قصة من أغرب القصص وأجملها، قصة (أم) وولد، ومربية وتلميذ، وحامية ومحسوب، وأخيراً قصة عاشق ومعشوق، وصاحب وخليلة؛ وكان اتصاله بها سنة ١٧٢٨ وهو حدث في نحو السادسة عشرة من عمره؛ ففي ذلك الحين فر روسو من جنيف مسقط رأسه، وغادر أسرته بعد أن التحق حين كان صبياً بمكتب محام ولم يأنس ميلاً للعمل فيه، ثم بحانوت حفار لم يطق خشونته وسوء معاملته؛ وسافر على غير هدى إلى بلدة كفنيون من أعمال سافوا، وقصد قسيسها المسيو دي بونفير وكانت بينه وبين أسرته صداقة، فأرسله بتوصية منه إلى سيدة خيرة محسنة هي مدام دي فرنس، لكي تعاونه على البحث عن عمل يعيش منه.
وكانت مدام دي فرنس تقيم يومئذ في بلدة (أنسي)؛ فقصد إليها الفتى جان جاك، وقلبه يتردد