لكل إنسان - وخاصة العقليين - والروحانيين - لحظات تضيء فيها
نفوسهم، حتى كأنها المرآة الصافية، أو الشعلة الملتهبة، كل جانب فيها
مضيء، وكل العالم منعكس عليها، يراه فيها كما يرى السماء في
الماء.
يحس بهذا الأديب، فتراه حينا وقد غزرت معانيه وتدفقت عليه من كل جانب، حتى ليحار في الإختيار، ماذا يأخذ وماذا يذر، وبم يفضل بعضها على بعض، وحتى كأنه يغترف من بحر، أو يملي عن حفظ، ويصدر عنه إذ ذاك القول السلس والمعاني الغزيرة، والشعر المتدفق، هذه اللحظات عنده هي (لحظات التجلي)، وتأتي عليه أوقات وقد جمدت قريحته، وأجدب فكره، يعاني في البحث ما يعاني، ثم لا يأتي إلا بحمأة وقليل من ماء، ويصعب عليه القول كأنه يمتح من بئر، أو يستنبط من صخر، وقد عبّر الفرزدق عن هذا المعنى فقال (أنا أشعر تميم، وربما أتت عليّ ساعة ونزع ضرس أسهل عليّ من قول بيت) ونتاجه في مثل هذه اللحظات بارد جاف، لا يستسيغه الذوق، ولا تألفه الروح، أشبه شيء بقطع الجلاميد، وبأجدال الحطب.
ويحس بهذا الفيلسوف، فيشعر بلحظات تنكشف فيها حقيقة هذا العالم، فيراه ويستلذها، ويود أن تدوم، بل يود أن تعاوده الفينة بعد الفينة، ويتمنى أن يشتري عودتها بكل مالك، وينفق في ساعة منها كل متع الحياة الدنيا، يشعر في هذه اللحظات بذكاء في الفهم، وصفاء في النفس، ولطافة في الحس تكفيه في فهم هذا العالم الإشارة، وتجزئه الإيماءة، يستشف العالم من وراء مظهره، ويلمحه من رموزه، ويشعر إذ ذاك بسمو في العقل، ورقي في الروح، لا يعدل لذتهما شيء في الحياة. ثم تذهب عنه لحظات التجلي على الرغم منه، فإذا به في بعض أوقاته مظلم الحس، متخلف الذهن، بليد البصيرة، لا ينتبه للحن، ولا يفطن لمغزى، تستعجم عليه المدارك الظاهرة، وتَخْفَى عليه الأشباح المائلة، وتختلف لحظات التجلي عند الفلاسفة ولا صوفية كثرة وقلة، كما يختلف مدى التجلي بعداً وقرباً، حتى ليحكى عن