وثمة خليفة آخر أولع ببث العيون، وتسقط الأخبار، حتى على وزرائه وخاصته، وهو المعتضد. وقد أورد التنوخي قصة تدل على مبلغ شغف هذا الخليفة بالتجسس، ومهارة المتجسسين في ذلك العصر. فقد كان القاسم وزيره يحب الشرب واللعب، ويخاف أن يتصل بالخليفة خبره فيستنقصه وينسبه إلى الصبوة والتهتك والتشاغل في اللذات عن الأعمال. وكان لا يشرب إلا على أخفى وأستر ما يكون. فخلا يوماً مع جوار مغنيات، والبسن من ثيابهن المصبغات، وأحضر فواكه كثيرة وشرب ولعب من نصف النهار إلى نصف الليلة الأخرى، ونام بقية الليلة، وبكر إلى المعتضد للخدمة على رسمه، فما أنكر شيئاً. وبكر في اليوم الثاني، فحين وقعت عين المعتضد عليه قال له: يا قاسم، ما كان عليك لو دعوتنا إلى خلوتك وألبستنا معك من ثيابك المصبغات؟ فقبّل الأرض وروى عن الصدق، وأظهر الشكر على هذا التبسط، وخرج وقد كاد يتلف غماً لوقوف المعتضد على هذا القدر من أمره، وكيف لا تخفي عليه مواقفه. فجاء إلى داره كئيباً، وكان له في داره صاحب خبر يُقال له خالد يرفع له أمورها، فأحضره وعرّفه بما جرى بينه وبين المعتضد، وقال له: إن بحثتَ لي عمن أخرج هذا الخبر زرتُ في رزقك وأجزتك كذا، وإن لم تعرفه نفيتُك إلى عُمان، وحلف له على الأمرين. فخرج صاحب خبره من حضرته متحيراً كئيباً لا يدري ما يعمل، وأخذ يفكر ويحتال ويجتهد. قال صاحب الخبر: فلما كان من الغد بكرتُ إلى دار القاسم زيادة تبكير على ما جرى به رسمي لفرط سهري وقلقي تلك الليلة ومحبتي للبحث، فجئتُ ولمُ يُفتح ولم يفتح باب دار القاسم بعد. فجلست. فإذا برجل يزحف في ثياب المكدين ومعه مخلاة كما يكون مع المكدين. فلما جاء إلى الباب جلس حتى فُتح، فسابقني إلى الدخول، فأولع به البوابون وقالوا: أي شيء خبرك يا فلان؟ وصفعوه فمازحهم وطايبهم وشتمهم وشتموه، وجلس في الدهليز فقال: الوزير يركب اليوم؟ قالوا: نعم. . . الساعة