قرأت مقالك البليغ في عدد الرسالة السابق، وكان محمود خصمك حاضراً فكفاني ما كلفتني من إبلاغه. وهو في هذه الساعة لين الحاشية، لأنه قام منذ هنيهة عن مائدة الإفطار الغنية الشهية، ممتلئ البطن من خير الله، رطيب اللسان بحمد الله، لا يذكر أن العالم ضيق رزق، ولا أن في الناس سوء خلق. ولذلك قال حين ذكَّرته برأيه وخبَّرته برأيك ما قال الإمام علي رضي الله عنه: تلك شقشقة هدرت ثم قرت! فكانت حاله التي حالت بين الأمس واليوم دليلاً جديداً لعلماء الاجتماع الذين يردون ثورات الشعوب المختلفة إلى العوامل الاقتصادية المحض من الحرمان والجوع. والواقع الذي لا يرفعه زخرف القول أن الناس يدورون بعواطفهم وأخلاقهم حول مادة العيش، فإن أعطوا منها رضوا، وأن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون.
على أن مجلسنا كان حافلاً بغير محمود من رجال العلم والدين والأدب وكلهم كانوا له وعليك، وليس ذهابهم إلى رأي خصيمك انصرافاً عما قررت من حميد الأثر لأخلاقنا المقدسة في ألفة الناس وسعادة النفس، فإن ذلك موضع اتفاق لا يشذ عنه إلا ميت الضمير أو مريض العقل. إنما كان موضع الجدل أن الأخلاق الفاضلة لا تصلح أن تكون عدة النجاح إن لم تكن عدة الفشل. والنجاح في جهاد العيش لا يدل على تمام معناه إذا قصدنا به الكفاف من ميسور الرزق، يصيبه الصالح والطالح، ويقنصه البازي والرخم. فإذا ضربت له مثلاً نجاح الصانع الصادق والتاجر الأمين والمزارع الوفي والعامل القانع، كانوا أحرياء أن يتهكموا بقداسة هذه الأخلاق إذا كان قصارى أمرها هذا النجاح الحقير وهي الدستور الأعلى لبلوغ السموات وامتلاك الأرض. فإن هؤلاء الطيبين الأخيار الذين وصفتهم بالقناعة وخصصتهم بالرضى لن يستطيعوا أن يكونوا يوماً من رجال المال والأعمال كصيدناوي والبدراوي وعبود. أما حين تقصد النجاح بمعناه الأتم فإنهم يرونك تنزع إلى مقالة محمود وتعلل بمنطقك السليم فشل التقي الأبي الحر بأنه (لا يرى إلى الجاه والمال إلا طريقاً واحدة هي الطريق التي يسنها الحق والشرف والأباء والمروءة، وأن أمام الفساق