للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والأذلاء والأدنياء طرقاً شتى من التلصلص والكذب والتزوير والخداع والملق والذلة والشره والظلم والقسوة والأثرة وهلم جرا، وأن من الأحرار من يخفق في عمله حين يلزم نفسه هذه الطريق الواحدة، ويقسرها على هذه المحجة الواضحة، وأن من العبيد عبيد المطامع والأهواء ومرضى النفوس والأخلاق من يظفرون في هذه السبل بما يريدون، ويبلغون الغاية التي يقصدون) وما دام جوهر الرأي واحداً فالسبيل القاصدة إذن أن نطبَّ لهذه الحال بما يوائم بين طموح الناس وكرامة الأخلاق وسلامة المجتمع. وليس هناك إلا وسيلة من وسيلتين: إما أن نصد الناس جميعاً عن هذه الطرق المتعددة، ونقصرهم على هذه الطريق الواحدة، بقوة الأديان والسلطان والتربية، وذلك ما عناه الرسول (ص) بقوله: (عليكم بالجادَّة ودعوا البُنَيَّات)؛ وإما أن نعيد النظر في قانون الأخلاق فلعل فيه ما لا يرافئ تقلب العصر وتطور المجتمع. فأما الوسيلة الأولى فقد سجل الماضي ودلل الحاضر على أنها خيال نبيل لا يقع في الإمكان، وحلم جميل لا تقوم عليه يقظة، وتعليل ذلك لا يعزب عنك فلا حاجة إلى تقريره. وأما الوسيلة الأخرى فهي على ما يرون مظنة التوفيق في الإصلاح الجديد.

ما معنى أن يظل التواضع والقناعة والزهد والمداراة والتوكل على إطلاقها فضائل وأنت ترى بعين الواقع أن المتواضع موضوع والقانع مهمل والزاهد محروم والمدارى مستذل والمتوكل عاجز؟ أليس صلف الإنجليزي أبلغ في العزة، وطمح الفرنسي أليق بالحياة، وطموح الإيطالي أخلق بالرجولة، وصراحة الألماني أدعى إلى الهيبة، واستقلال الأمريكي أضمن للفوز؟ ما معنى أن يظل الربا في عصر الاقتصاد رذيلة وقد أختلف اليوم في معناه ومرماه عن ربا (شيلوك) وأنت تعلم أن الغرب لم يستعبد الشرق إلا عن طريق بنوكه. فقد كانت تأخذ القناطير المقنطرة من أموال المسلمين بغير ربا لتقرضها إخوانهم المساكين بالربا الفاحش. ولو أنهم أخذوا رباها وأنفقوه في وجوه الإصلاح والبر لما بقى على أرضهم أجنبي، ولما ظل تحت سمائهم فقير. ولا أريد أن أعرض لغير الربا من الرذائل فلا نزال في حاجة إلى التقية والمصانعة. وإذا سلمنا أن مقياس الفضائل والرذائل هو النفع والضرر، فما كان مؤدياً إلى منفعة سمي فضيلة، وما كان مؤدياً إلى مضرة سمي رذيلة، سهل قياس الأخلاق على هذا الأساس، وأمكن بعد ذلك الاتفاق على نتيجة هذا القياس.

<<  <  ج:
ص:  >  >>