يأبى بعض علماء النفس إلا أن يسرفوا كل الإسراف في التقيد بالتجارب المادية فلا يرضون أن يقرروا الحقائق النفسية إلا بعد أن يقيسوها ويزنوها بمقاييس وموازين مادية من الأجهزة البارعة التي استحدثوها. ولست أدري كيف غاب عن هؤلاء العلماء الأجلاء أن المادة لا تستطيع أن تقيس وأن تزن إلا المادة وهم - على ما يعترفون بجهلهم المطبق بالنفس ذاتها - لا يجرؤ أحدهم على القول بأنها مادة. فإذا قال قائل: إن هناك طريقاً غير سراديب المعامل وأقبيتها قد تؤدي إلى بعض العلم بالنفس كان من حسن المجاملة التي يجب على علماء النفس اصطناعها أن يسكتوا عنه - إذا تكبروا عن متابعته - كما سكت عنهم وتركهم يقيسون ويزنون بما يستحدثون ويصنعون ما لا يعرفون ولا يعلمون ويقولون مع هذا إنهم علماء، وإنهم ينهجون في علمهم النهج القويم الوحيد
فإذا أرادوا أن يدافعوا عن أنفسهم وقالوا إنهم لم يستحدثوا حدثاً، ولم يبتدعوا بدعة وإنهم لم ينهجوا في علم النفس إلا النهج الذي ينهجه العلماء في بقية العلوم، وإنهم لا يطلبون شططاً من الناس ولا يحملونهم فوق ما يطيقون حين يسألونهم الإيمان بعلمهم كما يؤمنون بأمور الكهرباء التي يذيعها علماء الطبيعة فيقبلها الناس ويستغلها المخترعون من غير أن يطالبوا علماء الطبيعة بإدراك كنه الكهرباء. . . إذا قالوا هذا قلنا لهم: وعلماء الطبيعة مثلكم أيضاً يكتشفون ويخترعون ولكنهم لا يعلمون، وهم إذا جاز لهم أن يقعدوا عن فهم أسرار الطبيعة الصماء وقنعوا باستغلال قواها مستفيدين آكلين شاربين، فإن لهم عذرهم في هذا ما داموا يرون الطبيعة التي يقيسونها ويزنونها بأجهزتهم شيئاً خارجاً عن أنفسهم بعيداً عنهم، أما أنتم يا علماء النفس فتستطيعون أن تجولوا في أنفسكم بأنفسكم ولكنكم تزدرون أنفسكم زراية ما بعدها زراية حين تأبون إلا أن تسألوا عنها أجهزتكم، وأجهزتكم وحدها كالمبصر المفتوح العينين الذي يسير في وضح النهار ويأبى إلا أن يتحسس الأرض بعكازة لها