للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إيوان كسرى بين شاعرين]

للأستاذ حسن الأمين

- ١ -

وقف البحتري على إيوان كسرى وقفة طويلة جالت فيها عيناه في جوانب الإيوان وتطلعت إلى صوره ونقوشه، وترامت في جوانبه وأركانه، فأدهشته فخامة البنيان وروعة الفن وجلالة الصنعة فاستوحى خياله واستنطق شاعريته فجاءنا بقصيدته السنية الخالدة التي اشتهرت كل الاشتهار

وكما وقف البحتري على الإيوان وقف عليه بعد البحتري شاعر شهير، فأرسل بطرفه إلى سوامقه الشاهقة. وتلفت إلى بقاياه الهائلة، فهاجت شاعريته، وفاضت قريحته. فرفد الأدب العربي بقصيدة عضماء لم يكتب لها من الشهرة ما كتب لقصيدة البحتري؛ فظلت في ديوان الشاعر مغمورة بين قصائده الكثيرة قل أن يذكرها ذاكر أو يشير إليها مشير. وهكذا تواتي الحظوظ شعراً فيحلق في الأجواء، وينتشر في الآفاق، وتعاكس شعراً فينزوي بين طيات الأوراق، لا يرفع رأساً، ولا يسمع همساً فيضيع أي ضياع!

هذا الشاعر الذي عنيته هو الشريف الرضي، فقد تقاذفته النوى حتى حطت به على إيوان كسرى فنظم قصيدة من أروع قصائد الشعر العربي، ولكنها ظلت مهملة، فلم نجد بين كتاب العربية ونقادها من أولاها عناية، أو أشار إليها إشارة، مع ما فيها من الإحساس العميق والشعور السامي الذي يرفع صاحبها إلى أسمى المراتب بين شعراء الأمجاد العربية.

وقف الشاعران على الإيوان وتطلع كل منهما إليه بعينين تختلفان عن عيني الآخر، وأثار الإيوان في نفس أحد الشاعرين غير ما أثار في نفس الشاعر الآخر؛ فجاءت قصيدتاهما متباينتي الروح والعاطفة والغاية

فالبحتري كان في وقوفه على الإيوان شاعراً فحسب، لم يهج فيه الإيوان إلا عاطفة الشعر. فوصف ما شاهد وصف الشاعر المجيد الفنان فأبدع في الوصف ما شاء الإبداع، وأوحى له خلو الإيوان من بناته، وانقراض حماته عاطفة الأسى العميق فقال:

أتسلي عن الحظوظ وآسي ... لمحل من آل ساسان درْس

ذكرتنيهم الخطوب التوالي ... ولقد تذكر الخطوب وتنسى

<<  <  ج:
ص:  >  >>