فهو في هذه الأبيات متدكر معبر يتأسى عن الجدود العاثرة بالطلول الداثرة، فيذكر آل ساسان وحياتهم الهنيئة في ظل الإيوان، وعيشتهم الرغيدة في أبهائه، وما كان لهم فيه من سلطان أي سلطان. ثم هو يقارن بين هذه الأطلال الساسانية الضخمة وبين الأطلال البدوية التي شغلت شعراء الجاهلية فوقفوا عليها وبكوها وفاض شعرهم بالتغني بها وترديد ذكرها، فكأنما يريد أن يقول إن مثل هذه الأطلال هي التي يجب أن تشغل الشاعر فيعوج عليها ويستنطقها أخبار الظاعنين لا أطلال القفار البسابس التي لم يكن لها أن تشغل الشعراء ذلك الإشعال:
حُلل لم تكن كأطلال سعدي ... في قفار من البسابس ملس
ثم يندفع الشاعر بصف خلو الدار وإقفارها حتى كأنها أرماس أو مآتم بعد أعراس. ثم يشير إلى ما تدل عليه هذه الآثار من عجائب مشيديها وإبداع موجديها، ثم يسهب في وصف ما فيها من النقوش والصور الماثلة، مجيداً في كل ذلك كل الإجادة:
وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان منهم بلبس
فإذا ما رأيت صورة أنطا ... كية ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل وأنوشر ... وان يزجي الصفوف تحت الدرفْس
في اخضرار من اللباس على أص ... فر يختال في صبيغة ورس
وعراك الرجالِ بين يديه ... في خفوت منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوى بعامل رمح ... ومُليح من السنان بترس
وفي هذه الأبيات نستدل على ما كان عليه الإيوان من فن رائع تتحلى فيه صور المعارك الحربية بين الروم والفرس وصور ملوك بألبستهم الزاهية يقودون جيوشهم المنتصرة، وصور المتقاتلين هذا يهوى برمحه وذاك يتقى بترسه إلى غير ذلك من المشاهد المتنوعة
ويبلغ إعجاب البحتري بهذه الصور والنقوش أقصي حدوده حتى ليحسبها أشخاصاً حية، وحتى أنه ليمعن في هذا الحسبان فيغالط نفسه فيتقدم إليها ويلمسها ليتأكد من خمود الحياة فيها: