كنا ذات صباح نحو عشرين رجلاً قد وقفنا واحدا خلف واحد ننتظر في قلق حتى تفتح نافذة تذاكر السفر؟ وأخذ يتزايد عددنا دقيقة بعد أخرى، وكان كل قادم يأخذ مكانه في ذيل هذا الخط الطويل الذي ذكرني بما كنا نفعل ونحن صغار حين كنا نقلد القطار. . .
وكنا جمعياً لا نفتأ ننظر في ساعاتنا وصفير القطر وصوت رحيلها على الأفاريز القريبة يملأ أسماعنا، وحركة المسافرين والحمالين وهم يسرعون في موجب وفي غير موجب تزيدنا قلقاً على قلق، ونشاط، صارفي التذاكر في النوافذ المفتوحة على جانبي نافذتنا الموصدة يلقي في نفوسنا الشك في وجود من يفتحها أو يميل بنا إلى الظن أنه ربما ربكة في حجرته عمل آخر. وكان أكثرنا نظراً في ساعاتهم من كانوا أكثر بعداً عن النافذة؛ على أن القلق قد اشتد بنا جمعياً. حتى أوشك أن يتحول إلى ضجر. . . وأخيراً فتحت النافذة.
أقبل بائع التذاكر على عمله في هدوء تؤدة، بعد أن ألقى نظرة على المنتظرين، وكان مبعث اطمئنانه أنه كفيل ببيع التذاكر جميعاً قبل تحرك القطار بوقت كاف فهو خبير بعمله وقلما داخله ما يداخل المسافرين من قلق.
وأخذ كل منا يخطو خطوة كلما خلا من مقدمة الصف رجل، وبينما نحن على هذا النظام الذي نفعله مقلدين نزلاءنا منذ كثر عددهم بيننا هذه الحرب، إذ أخذت عيناي لا بل أخذ منظاري شاباً مقبلاً بادي الأناقة، متكلف العظمة، يلتمع شعر رأسه الحاسر التماعاً لا يضاهيه إلا التماع رباط عنقه الأحمر، وإنه ليخطو في خيلاء تشبه الصلف، يضرب الأرض بقدميه ضرباً قوياً حتى ليحدث حذاءه صوتاً واضحاً قي ضوضاء الفناء، وما أسرع ما فطنت إلى أني منه تلقاء متحمس، وأني لشديد المحبة للمتحمسين عظيم الشغف برؤيتهم
ومشى هذا المتحمس إلى النافذة فوضع نفسه في رأس الصف وهيهات أن يرضى متحمس أن يكون في المؤخرة، ولكنه ما كاد يمد يده بالنقود حتى سرت في الصف كله موجة احتجاج كانت أكثر شدة في آخره؛ وارتفع صوت من الوسط ينبه هذا المخالف:
- أرجو أن تأخذ دورك وإلا فما معنى أن كلا منا قد ارتضي دوره؟