- هذا ليس من شأنك. . . أأنت مفتش؟. . . أأنت مراقب؟
- يا سيدي هذا لا يليق. . . ارجع إلى موضعك من فضلك
- موش شغلك يا أفندي. . . اشكني إلى مدير المصلحة
وتحير هذا الذي يحتج ماذا يقول، ولكنه ما لبث أن صاح قائلاً في غضب:(يظهر أنه مازال بيننا (جليطة) كثير) ونظرت فإذا بي منه تلقاء متحمس ثان في نهاية سن الكهولة، وأنا كما ذكرت لك أحب المتحمسين وأطرب أشد الطرب لرؤية تحمسهم
وجاء أجنبي في تلك اللحظة فقصد إلى النافذة كما فعل المتحمس الأول؛ ولعله قد رأى مزاحمته فظن الأمر فوضى، وما كاد ينبهه أحدنا حتى عاد إلى موضعه في ذيل الصف معتذراً عن خطئه وفي وجهه حمرة شديدة من فرط الخجل.
وإذ ذاك نظر المتحمس الثاني إلى المتحمس الأول قائلا وهو يشير إلى ذلك الأجنبي:(ألا ترى؟ هذا لأنه بني آدم)
ولكن صاحبنا لم يتزحزح عن موضعه وكأنه يتمسك بمبدأ الثبات حتى الموت، وإلا فماله لا يبالي بضجر المتضجرين في الصف كله - إلا أنا بالضرورة - ولا يبالي بنظرات الازدراء تصوب نحوه في شدة كادت تجعل من في الصف ما عداي متحمسين؟ لم يعبا على الرغم من ذلك وظل متمسكاً بمبدئه القويم ومد يده بالنقود إلى بائع التذاكر فما أشد ما أخذه من حيرة إذ سمع ذلك البائع يقول له في هدوء:(من فضلك اذهب إلى موضعك)
وثارت ثائرة هذا المتحمس، فقال في صوت أشبه بالصراخ وهو يضرب النافذة بقبضته (أتمتنع عن بيع التذكرة؟) وتطلعت في فرح احسبني أظفر برؤية متحمس ثالث، ولكن البائع ظل هادئاً ونظر إليه مبتسماً وهو يقول:(اشكني إلى مدير المصلحة)
وتناول البائع النقود من كل مسافر حسب دورة في الصف وظل صاحبنا في موضعه قرب النافذة متمسكاً بمبدأ الثبات حتى الموت يرشقه كلمن أخذ تذكرته بنظرة ازدراء، حتى جاء دور المتحمس الثاني وقد امتلأت نفسه إعجاباً ببائع التذاكر وعدالته، فنظر نظرة نصفها إليه ونصفها إلى ذلك الذي لم تجده حماسته وقال متهللا:(والله ما يصح أن يكون مدير المصلحة غيرك)؛ ثم صوب نحو زميله الذي ماتت حماسته من الخزي نظرة شامتة وهرول إلى حيث يقف القطار