قانون الحياة مادتان: هجوم على القوت، ودفاع عن الذات. وما كلمات النباهة والمجد والخلود إلا طعوم مغريات في يد الطبيعة، تتذرع بها إلى ضمان الحياة بالوفرة، كما تتذرع بالجمال والشهوة واللذة إلى بقاء النوع بالولادة. فالحي خليق بالبقاء تتوفر فيه ولا ريب قوة السعي لنفسه، وقوة الوقوف لغيره؛ فإذا فقد هاتين القوتين أو إحداهما كان طفيليا على مائدة الحياة، وفضوليا في ملكوت الطبيعة. وليست العزة التي تملك القاصر حين يرشد، أو التابع حين يستقل، إلا يقظة الأنانية في طبعه، وثورة الحيوية في دمه. وهذا الذي نشهده اليوم في مصر المستقلة من التسابق إلى إعداد القوة، والتنافس في إنشاء الدفاع، إنما هو استكمال لإحدى وسيلتي العيش، واستشعار لأرقى طبيعتي الوجود. فقد كانت مصر قبل عهدها الجديد تجري على قدر مجهول في الغيب، وتعيش على خطر معلوم من العدو، ثم لا تجد في واديها ولا في أيديها ما يدفع الغارة ويمنع الحوزة، فهي كالمرأة حمايتها على الزوج، وكالقاصر تبعته على الوصي. لذلك خشعت نفوسها أمام القوى الساطية خشوع الوحش الداجن إذا حطم نابه وقلم ظفره، فلا تدخل في شر، ولا تشارك في مراء، ولا تملك من دون وليها المحتل نفعا ولا ضرا. كان ذلك وأكثر الدول السيدة الأيدة كالبلجيك واليونان والترك لا يطولها أصلا، ولا يكثرها نفراً، ولا يفوقها ثروة. وكان ذلك والقوة هي الدستور النافذ في الأرض؛ فالتسليح خطة السياسة، والحرب عماد السلام، والمنفعة حجة القانون، وعصبة الأمم والمعاهدات (منيكير) لمخلب الأسد؛ ولكن الاحتلال الذي غل اليد وشل الإرادة قد سلبنا فيما سلب الثقة بالقدرة، والاعتماد على النفس، فكنا فقراء مع الغنى، وأذلاء على الكثرة، لا ندري على اليقين قيمة ما نملك ولا مدى ما نطيق
أما اليوم وقد تحطمت حلقات القيود على ضغط الجهاد الملح والزعامة المخلصة، فهاهي ذي مصر طليقة على سجيتها، سافرة عن طويتها، وقد عصفت في رأسها النخوة، وتمرد في نفسها التاريخ، فهي تتأهب لإعلان قوتها وإعزاز كلمتها وتحصين عزتها في الميادين الحرب الثلاثة! وهاهم أولاء أبناؤها الميامين البررة يتدفقون في التبرع السخي لمشروع الدفاع الوطني تدفق الدماء الحية في قلوبهم الحرة! وسيدهش العالم لهبتهم العاصفة، كما دهش من قبل لغفوتهم الثقيلة، فان مصر في كل شيء فريدة عجيبة!
لقد هبوا أول الجهاد فسخوا لها بالأنفس، وهم يهبون اليوم أول النصر