قال صاحبي بعد قليل من سكتة صفير الإنذار بالغارة الجوية:
الآن وقد صم صدى هذا النذير البغيض، ومات صوت البومة الدميمة التي قامت تنعق على الموضع الخراب من عقل هذا العالم، فأسرعت الأيدي وتناهضت الأقدام، وخفت الأحياء ليطمروا أشلاء النهار التي كانت مبعثرة في طرقهم وبيوتهم على معركة الليل البهيم، إنهم يدفنون هذه الأشلاء الوهاجة خشية أن تراها عيون العافية من سباع الجو المنقضة بأنياب كرجوم الشياطين. آه يا صديقي! ما أقبح هذا وأفجره. ولكن دعني من هذا، فالآن أعود إليك
لقد مثلت لك بعض صورتها هي وبعض صورته عند أول اللقاء. لم أكشف لك بعد عن حقيقة النفسين وهما تعملان بأسباب من القدر، إن هذه الأسباب التي لا تدري متى أولها، قد أخذت تلتوي عليهما فيما يستقبلان من أيامهما، وثمة بدأ الإشكال، وتراكبت العقد الجديدة على تلك العقدة القديمة التي التبست عليهما في الطفولة، فلست أدري، ولا هما أيضاً يدريان، إلى أين المصير!
لمحها ولمحته في يوم اللقاء الأول، فوقفا طويلاً ينظران. وشخص البصر وكفت العين لا تطرف، وكأن العين قد أرسلت إلى العين رسلاً من أشعتها لتبحث في أعماقها عن معانيها الحائرة التي لم يستقر بعد على قرار مؤمن، تتبين فيه كلتاهما صورة كلماتها القلبية التي تنبض في موج الدم
أما هو، فقد أخذه ما يأخذ الغريق المشفي على هاوية من الهلاك الرطب الندي، ثم يفتح عينيه، فإذا هو ملقى على الشاطئ قد انتشلته من فزع الردى نجاة برحمة من روح الله. ولكنه لا يدري من الذي رده إلى الحياة بعد ملابسة الموت؟ ولا كيف كان؟ ولا أين هو؟ ولا أي مكان هذا؟. . .
وأما هي، فقد أنكرته بادئ اللحظة، ثم انكشف لعينيها الحجاب الكثيف الذي أرخاه الدهر الماضي بين أيامها وأيامه. . .