انتهينا من بيان الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ما حدث من انقلاب في حياة شاعرنا سنة ثمانين ومائة للهجرة، وعرفنا أن أهمها هو شعوره بالضعة لما كان من وضاعة آبائه وأجداده، وما استتبع ذلك من حقد على ذوي الجاه والنفوذ في عصره، وسخط على الحياة والأحياء عامة. وثانيهما نقمته على هارون وبغضة له. وثالث تلك الأسباب هو تدخل الفضل بن الربيع وزبيدة وتشجيعهما للشاعر على الثورة ضد الخليفة.
واليوم تبدأ المرحلة الثانية في دراستنا وهي الثيام بجولة في شعره لنرى مدى انطباق ما قدمنه من نظريات على تلك الأشعار، ولنبدأ بما كان من شعر الشاعر خاصا بهارون. ولعل القارئ الكريم يتوقع مما ذكرناه آنفا أن يرى لأبي العتاهية في هارون نوعين مختلفين من الشعر: شعر ينبعث من نفس مليئة حقدا على الخليفة لما كان من تثاقله في أمر عتبة ثم ما كان من حبسه للشاعر في غير جريرة اللهم إلا استعماله لحقه الطبيعي من الامتناع عن الغزل. وشعر من نوع آخر لا ينفس به الشاعر عن نفس مغيظة أو عواطف مكبوتة، ولكن يحاول فيه أن يفي للفضل وزبيدة بما أخذه على نفسه من تسخير ملكته الشعرية لخدمتها.
وقد كان النوع الأول يتمثل في تأليب الناس على الخليفة أملا في تقويض ملكة وزوال سلطانه، ويتمثل أيضاً في تلك الأشعار الكثيرة التي كان يرجو فيها للخليفة موتا عاجلا يريحه ويريح منه، فمن ذلك تلك الأبيات التي أرسلها الشاعر إلى خزيمة بن خازم أحد قواد الرشيد الأكفاء والتي يقول فيها:
ألا أن تقوى الله أفضل نسبة ... تسامى بها عند الفخار كريم
إذا ما اجتنبت النفس إلا على التقى ... خرجت من الدنيا وأنت سليم
أراك أمرأ ترجو من الله عفوه ... وأنت على مالا يحب مقيم
تدل على التقوى وأنت مقصر ... أيا من يداوي الناس وهو سقيم
وأذللت نفسي اليوم كيما أعزها ... غدا حيث يبقى العز لي ويدوم
والأبيات كما هي الآن مجردة من تعليق الرواة لا توحي بان وراءها معنى خاصا، وما هي إلا كغيرها من القصائد الكثيرة التي يمر بها القارئ في ديوان أبي العتاهية ويأخذها على