أنها نوع من الوعظ لم تقصد به شخص بذاته ولا يهدف إلى غرض بعينه حتى أن جامع الديوان قدم لها بقوله (وقال في تقوى الله وحسن منافعها وحميد عاقبتها) والآن انظر المناسبة التي قيلت فيها حتى تعرف بالتحديد قصد الشاعر بها: وإليك ما يرويه الأغاني في بيان تلك المناسبة: (حدث حبيب بن عبد الرحمن عن بعض أصحابه قال: كنت في مجلس خزيمة فجرى حديث ما يسفك من الدماء فقال: والله عذر ولا حجة إلا رجاء عفوه ومغفرته. ولولا عز السلطان وكراهة الذلة وأن أصير بعد الرياسة سوقة وتابعا بعد ما كنت متبوعا ما كان في الأرض ازهد ولا أعبد مني. فإذا هو بالحاجب قد دخل برقعة من أبي العتاهية مكتوب فيها الأبيات السالفة فغضب خزيمة وقال: ولله ما المعروف عند هذا المعتوه الملحف من كنوز البر فيرغب فيه حر. فقيل له. وكيف ذلك؟ فقال: لأنه من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله)
يظهر أن خزيمة كان يجلس إلى نفر من الشيعة أو غيرهم من الطوائف التي كانت تنقم من هارون ميله لسفك الدماء، ويظهر أنهم لاموا خزيمة في تعاونه مع هارون لما يرتكبه الأخير من مظالم. والأبيات واضحة في معناها وفيها يثبط الشاعر خزيمة عن مناصرة الرشيد ويذكره بآخرته ويبين له أن الفخر إنما هو في التقوى والعز الحقيقي إنما هو عز الآخرة لا الدنيا.
وإليك أبيات أخرى من قصيدة قالها الشاعر وهو في سجن الخليفة وفيها يقول.
أما والله أن الظلم لؤم ... وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا ... غدا عند الإله من الملوم
سينقطع التروح عن أناس ... من الدنيا وتنقطع الغموم
تنام ولم تنم عنك المنايا ... تنبه للمنية يا نؤوم
تموت غدا وأنت قرير عين ... من الغفلات في لجج تعوم
ومع أن القصيدة تسعة عشر بيتاً فنحن نعتقد أن الشاعر إنما أرسل منها إلى الرشيد الأبيات الأخيرة فقط واحتفظ بالباقي لنفسه، لا كما يذكر الرواة من أنه أرسل القصيدة بتمامها إلى هارون، ولو أنه فعل لأستوجب سفك دمه. الأبيات الأخيرة التي أرسلها تروي هكذا: