أحب من أعرف من القراء هذا المتعاظم الصغير وما منهم إلا من يراه فيما قرأ عذب الروح خفيف الظل، يرق كثافة ويلطف روحاً، حتى لتكاد ألا تراه إذا وقعت عليه العيون
جلست ذات يوم مع كبير من أصحاب الديوان، جئته زائراً فحسب، فراح - ولعله ظن أني جئته لأمر - يشكو إليَّ من كثرة من يجيئونه من طالبي الوظائف لأٌقاربهم والمحسوبين عليهم من الناس، وقال وهو يبتسم ابتسامة ساخرة: والعجب أنه كثيراً ما يطلب إليَّ ذلك من لا أكاد أعرف أشخاصهم، فمن هؤلاء من يرى أن مجرد رؤيته إياي مرة في أية مناسبة، كفيل بأن يجعل له حق الوساطة لدي!
وما كاد يتم صاحب الديوان عبارته، حتى ناوله حاجبه بطاقة فنظر فيها نظرة المتسائل وقطب، ثم ابتسم مثل ابتسامته السالفة وقال لحاجبه في شيء من الضجر: أدخله. . .
وفتح الباب، ونظرت، فإذا المتعاظم الصغير يقبل متهللاً فيسلم على صاحب الديوان سلام الصديق على صديقه، وبعد أن سأله كيف حاله وكيف حال أنجاله، وأعاد ذلك مرة ومرة، دنا منه وكلمه كلاماً لم أسمعه، وإنما رأيت في معارف وجهه التوسل والاستعطاف الشديدين؛ وأنصت صاحب الديوان وعلى وجهه إمارات من يكظم غيظه ومن يعاني من ذلك ضيقاً شديداً، ثم نفس عن نفسه بقوله:(يا سيدي الأستاذ هذا ضد القانون) ولكن الأستاذ راح يتوسل من جديد في ابتسامات قردية السمت، وحركات من لَيَّ العنق وإدارة الوجه: مرة إلى اليمين ومرة إلى الشمال، أشبه بما يفعل معك أحد الشحاذين إذا ابتليت به فقطع عليك طريقك
وما فرغ الأستاذ من مسكنته هذه إلا بعد أن راح صاحب الديوان يكرر - وكأنه يصرخ - قوله:(آسف يا سيدي. . . يا سيدي قلت لك آسف. . . لا تؤاخذني. . . آسف. . . آسف)
وبلغ المتعاظم الصغير منتهى عذوبة روحه وخفة ظله، فراح يلقي في روع صاحب الديوان أنه يعرف فلاناً وفلاناً، وأنه له عند (سعادة الوكيل) مكانة خاصة، وأن من أصدقائه كيت وكيت من العظماء والكبراء، وأنه ما جاء يرجو (سعادة البك) إلا لما عرف من كرمه وبره، ثم سأله ليغطي خجله أو ليحفظ على نفسه تعاظمها وقد يئس من التوسل، أيجيب