كنا نسكن في إحدى ضواحي القاهرة، ونعمنا فيها زمانا بالهدوء والجمال، ثم أغارت علينا أسراب البعوض فنغصتنا وكدرت صفونا، وأخرجتنا من ذلك العش الهادئ، كما أخرج الشيطان أبوينا آدم وحواء من الجنة. . ولجأنا إلى شقة بحي من أحياء القاهرة الزاخرة العامرة. وتنفسنا الصعداء، إذ صرنا بنجوة من ذلك الذي كان يلدغ أجسادنا فيعكر دماءنا، ولكن سرعان ما تبين لنا أن صروف الدهر لا تزال تترصدنا، فلقد أبدلتنا بالبعوض الإذاعة. . ورأينا برامج الثانية أشد تبريحا من زباني الأول، هذا ينال من الجسد، وتلك تنكل بالذوق السليم. وقد كنا نحاول أن نتقي البعوض بغلق النوافذ ورش السوائل المبيدة، ولكن لا بد لنا من الهواء، فإذا فتحنا له دخل العدو المهاجم معه. ولم يكن البعوض بمنزلنا فقط حتى نستطيع حصاره فيه وإبادته، وغنما هو يأتينا من كل مكان في الضاحية، فأن قتلنا منه رسلا أقبلت أرسال. وكذلك صار حالنا مع الإذاعة، نقفل مذياعنا، فتهاجمنا أصواتها من مذياع الجيران، وبكل شقة مذياع، ولكن هذه الشقة التي تقع تحتنا يسكنها (فسخاني) الحي، وهو رجل عريض القدر كبير المقام، لأنه (فسخاني) الحي كله. . ومذياعه على قدر مقامه وعلو قدره، فلا بد أن يعلو صوته حتى سمع من لا يحب أن يسمع. . والرجل يحب ألوان الغناء التي لا أسيغها بل لا أطيقها، وخاصة (التواشيح) التي يتغنى بها (الفقهاء) في الموالد، التي تنقلها الإذاعة المصرية بعجرها وبجرها، فتصك الأسماع وتؤذي الأذواق السليمة بما تجلجل أصوات المنشدين وما تطلقه حناجر المستمعين.
وما زلت أعاني عقابيل (السهرة) الأخيرة التي احتفل فيها بمولد سيدي مرزوق الأحمدي في مسجده بالجمالية، ولم تفت الفرصة إذاعتنا الهمامة، فشمرت عن ساعد (الميكرفون) وراحت تبحث في تلك الأزقة حتى بلغت ضريح (سيدي مرزوق الأحمدي) ومن الإنصاف أن نسجل لها ذلك الجهد الكبير الذي كشفت به ذاك الضريح فبزت بهذا الكشف (كولمبس) وغيره من كبار المستكشفين. . فما كنا نعرف (سيدي مرزوق الأحمدي) قبل اليوم وما كنا نسمع له ذكرا. .