للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

من الأدب الإيطالي:

ذلك الرجل!!

للشاعر الإيطالي جبريل دانونزيو

بقلم الأديب محمد فتحي عبد الوهاب

كان قصير القامة ممشوقها، تنوء رقبته برأس ضخم يميل قليلا إلى اليسار، وقد اكتسى هذا الرأس غابة كثيفة من الشعر الكستنائي المسترسل إلى كتفيه في تجعدات والتواءات، تلعب به الريح لعبها بعرف الجواد، ولحية كثة كلحية المتقشفين، تركها دون تهذيب وقد تراكمت عليها ندف صغيرة من القش. وكانت عيناه تتطلعان دائما إلى موقع قدميه العاريتين، حتى إذا ما رفعهما ظهر فيهما الغموض والابهام، ولاح فيهما الرعب، أو بدتا كما لو كانتا عينني مخبول تارة، أو رجل محموم تارة أخرى. أو تشهد فيهما ما يجعلك تفكر في الماء الأخضر الآسن الراكد في حفرة ضيقة، أو في وميض السيف اللامع.

كان يرتدي سترة قديمة حمراء، قد ألقى بها على كتفيه كأنها المعطف. وكان الناس يروون عنه شتى الأقاصيص، ويتحدثون عن حب، وخيانة، واعتداء، وهروب. . .

كنت في سن الثالثة عشرة عند ما قابلته أول مرة، فجذبني منظره. وكان ذلك في يوم من أيام الصيف الحارة والميدان الكبير تغمره الشمس، وقد أقفر إلا من بعض الكلاب تتسكع هنا وهناك، والسكون مخيم على المكان، اللهم إلا من ذلك الصرير الممل لعجلة السنان. وكنت قد اعتدت الوقوف برهة أراقب ذلك الرجل من خلف مصراعي نافذة غرفتي، فأراه يسير في بطئ تحت شمس الظهيرة، يختال في جو من العظمة، أو يزحف قرب الكلاب في هدوء حتى لا تلاحظه، ويلتقط حجرا يقذفها به في خفة ثم يهرب متظاهرا بأنه شيء غير منظور، فتقبل عليه الكلاب وتلتف حوله وهي تبصبص بأذنابها، فينظر إليها ثم ينفجر ضاحكا ضحكات قصيرة صبيانية فأشاركه ضحكه.

وفي ذات يوم تمالكت شجاعتي، وأطللت برأسي من النافذة ثم ناديته. فالتفت إلى في سرعة ثم أبتسم، والتقطت زهرة من الأقاصيص قذفت بها اليه، ومنذ ذلك الحين أصبحنا صديقين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>