للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وفي مساء يوم سبت كنت واقفا على الجسر وحيدا أراقب حركة أسطول الصيادين وهو راجع من الصيد. كانت شمس يوليو البديعة تغرب، وقد احمرت السماء بالسحب الذهبية، وتوهج النهر الجاري صوب البحر وارتعشت أمواجه في تلألؤ زاه. وكانت الضفاف تحت الهضبات تلقى على الماء فتنعكس الأشجار، وتظهر قممها كأنها نائمة على صفحة الماء في ذلك الجو الحار. وجعلت القوارب تلقى مراسيها في بطئ وقد طوت أشرعتها البرتقالية الكبيرة ذات الخطوط الزخرفية السوداء. وابتدأت تفرغ حمولتها من السمك. وسرت الريح تحمل أصوات النوتية ورائحة الصخور.

والتفت فجاءة ورائي فرأيت الرجل واقفا يتصبب عرقا، وقد أخفى يده اليمنى وراء ظهره، وأضاءت فمه ابتسامته الصبيانية المعهودة. فصحت اهتف باسمه وأنا أمد يدي المتخاذلة إليه في سرور. وتقدم نحوي وقدم إلى بيده التي كان يخفيها باقة أنيقة من الخشخاش الأحمر وسنابل القمح الذهبية. فصحت وأنا أتناولها منه (أشكرك، أشكرك، ما أجملها. . .)

وسحب يده على حاجبيه، وجعل يمسح العرق المتساقط ثم ينظر إلى أصابعه المبللة ثم إلي، وأخيراً ضحك وقال (إن الخشخاش الأحمر ينمو بين القمح الأصفر هناك في الحقول، فرأيتها وأحضرتها لك فقلت لي) ما أجملها (وكانت الشمس كالنار).

كان يتكلم في خنوع، ويقف بين كل كلمة وأخرى كأنه يحاول أن يتبع خيط أفكاره. أم آلاف الصور المبهمة المضطربة كانت تتجمع في ذهنه. فيحاول أن يبززها ويتشبث باثنتين أو ثلاثة منها، تلك التي كانت أكثرها ثبوتا وأوضحها صورة، وتهرب منه الصور الباقية. كنت الحظ ذلك في عينيه فأتعجب. وكأنه شعر بما يجول في خاطري، فأدار رأسه صوب قوارب الصيد وقال وهو يفكر:

- هذا الشراع، إنه شراعان، واحد في الهواء، وواحد في الماء.

كان لا يدرك أن الشراع الأسفل انعكاس الشراع الأعلى على صفحة الماء. فجعلت اشرح له ذلك قدر امكاني، فاستمع إلي في ذهول، ثم ابتسم وتطلع إلى الأشرعة.

وسقطت زهرة من الخشخاش في النهر، فراقبها حتى اختفت مع التيار، ثم قال في صوت حزين لا يوصف (لقد رحلت بعيدا، بعيدا جدا (وكأنها شيء عزيز لديه).

وبعد لحظة من الصمت سألته (من أي قرية أتيت؟)

<<  <  ج:
ص:  >  >>