للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فالتفت صوب السماء يتطلع إلى صفاء لونها الزبرجدي. كانت الجبال القاتمة تظهر أمام الأفق كأنها جبار راقد. وامتد الجسر الحديدي فوق النهر يقطع السماء إلى صور صغيرة، وظهرت خلفه الأشجار الخضراء وقد استحالت إلى أشباح قاتمة. واختلطت ضحكات الجنود في الثكنات بصوت البوق.

وأخيراً قال (كان عندي منزل ابيض، نعم كان كذلك، تحفه حديقة كبيرة من الفواكه. لقد اعتادت تريزا أن تحظر في المساء. كانت جميلة، أن عينيها. . . ولكن. . .)

وكف عن الكلام وقد ظهرت على هينيه الكآبة. ولكن سرعان ما عاد إلى هدوئه، ثم انحنى لي، وسار مبتعدا عني وهو يغني.

ومنذ ذلك الحين كنت كلما أراه يمر في الطريق أناديه وأجود له ببعض الطعام. وفي ذات مرة قدمت إليه القليل من النقود الذي أعطيتني إياه والدتي، ونظر إلي في صرامة، ثم دفع بها إلى في احتقار ظاهر، وأخيراً أدار ظهره ومشى دون أن يلتفت إلى.

وفي ذلك المساء قابلته خارج الميناء الجديد، فتقدمت إليه قائلا

- سامحني، سامحني.

فهرب كأنه حيوان جافل، وفي لحظة كان قد اختفى عن أنظاري بين الأشجار. ولكن في صباح اليوم التالي كان ينتظرني على باب داري، وابتسم في شجاعة، ثم قدم إلى ياقة يانعة من زهور المرجريت. كانت عيناه محضلتين بالدموع، وشفتاه ترتعشان. . . وعادت المياه إلى مجاريها.

وفي ذات مرة، في أواخر شهر أغسطس، كنا جالسين في نهاية الطريق وكانت الشمس قد توارت بالجبال. وقد امتدت أشجار الصنوبر حتى البحر، وابتدأ القمر يرتفع في بطئ في عنان السماء بين السحب القاتمة. . .

ونظر إلى القمر ثم تمتم قائلا (انظر! الآن تستطيع أن تراه. . تستطيع أن تراه)

وجعل يتأمله لحظة ثم قال (ذلك القمر! إن له عينين وأنفاً وفما كالبشر، لست ادري ما الذي يفكر فيه. من يدري؟)

ثم جعل يدندن أغنية ذات لحن حزين، من تلك الأغنيات التي يرتلها الأهلون عند قطف الكروم في ليالي الخريف الحارة. وكان يلوح لنا عن بعد مصباحا قطار قادم في سرعة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>